اشتهر
صلاح الدين بين المسلمين بكفاحه وجهاده , وبين الأوربيين بسماحته وعدله ,
ورغم ذلك لم تقتصر مآثره ـ رحمه الله ـ على جهاده الذي انتهى بتحرير بيت
المقدس من أيدي الصليبيين ـ وإن كان هذا شرفا لا يدانيه فيه كثير من
العظماء ـ ولا على سماحته التي قلما تخلق بها أحد بعد الأنبياء , وإنما
تعددت تلك المآثر , وكثرت كثرة تدعونا لتقديره والثناء عليه.
ونحن
لو نظرنا في جهوده في رعاية المسلمين , وإصلاح شئون الدولة الإسلامية
لوجدناها لا تقل عظمة عما قام به من جهاد في تحرير كثير من البلاد
الإسلامية ولم شعثها , ولا عجب في ذلك , فالقائد العظيم قلما ينجح في
الخارج قبل نجاحه في الداخل .
وهذه سطور نبرز فيها من جهوده ومآثره ما عساه أن ينفع العاملين لدين الله ,
وغيرهم من المسلمين ممن يبتغون الاقتداء بهذا الرجل الذي تبحث أمتنا الآن
عن شبيهه ؛ ليعيد إليها بعضا من عزتها المسلوبة , وكرامتها المفقودة.
وأول هذه المآثر التي تحمد له ـ رحمه الله ـ على مر التاريخ
ما أسداه إلى المسلمين المهاجرين من بلاد المغرب والأندلس تحت ضغط التعذيب
والقتل والإبادة على يد الإسبان , إذ شمل هؤلاء بعطفه وحنانه وشفقته.
واتسع
اعتناء السلطان بهؤلاء الغرباء الطارئين حتى إنه أمر بأن يوفر لهم كل ما
يحتاجون إليه ؛ لينسيهم هول ما تعرضوا له من محن , وأنشأ حمامات لهم في
الأماكن التي ينزلون بها , يستحمون فيها متى احتاجوا إلى ذلك , وبنى لهم
مارستانا لعلاج من يمرض منهم , ووكل بهم أطباء يتفقدون أحوالهم, وجعل تحت
أيديهم خداما , يأمرونهم بالنظر في مصالحهم , وما يحتاجونه من علاج وغذاء ,
كما وظف الأطباء لزيارة المرضى الذين يستحيون من الذهاب إلى المارستان
المجاني , وجعل لمن يمر ببلاده من أبناء السبيل وجبات غذائية في كل يوم .
وأكثر
هذه النفقات كانت من ماله الخاص , إذ كان رحمه الله شديد الحرص على
الإنفاق في سبيل الله , حتى روي أن صدقة النفل قد استنفذت جميع ما ملكه من
الأموال , وأنه مات ولم يخلف في خزانته من الذهب والفضة إلا سبعة وأربعين
درهما , وجراما واحدا ذهبا , ولم يخلف دارا ولا عقارا ولا بستانا ولا قرية
ولا مزرعة .
وهذا العمل
النبيل منه لعل في ذكره تذكرة لأهالي البلاد الإسلامية التي عافاها الله
من الوقوع تحت نيران الاحتلال ؛ ليقوموا بواجبهم تجاه إخوانهم الذين حوصروا
في ديارهم أو أخرجوا منها دون ملجأ أو ملاذ.
وثاني هذه المآثر قضاؤه على كثير من الأنظمة والتقاليد الفاسدة
والبدع التي عمت مصر أيام الحكم الفاطمي , ومن بينها الضرائب الباهظة غير
الشرعية التي أثقلت كاهل المصريين من قبل , تحت مسميات شتى , ولم يُبق منها
إلا ما له سند شرعي كالجزية والخراج وعشور التجارة .
وثالث تلك المآثر عدله بين رعيته ,
حيث وصفه من عايشه من العلماء بأنه كان عادلا رءوفا رحيما ناصرا للضعيف
على القوي , وكان يجلس للعدل في كل يوم اثنين وخميس في مجلس عام , يحضره
الفقهاء والقضاة والعلماء , ويفتح الباب للمتحاكمين حتى يصل إليه كل واحد
من كبير وصغير وعجوز وهرم وشيخ كبير , وكان يفعل ذلك سفرا وحضرا .
كما
كان في جميع زمانه قابلا لما يعرض عليه من الشكاوي, كاشفا لما ينهى إليه
من المظالم , وكان يجمع القصص (الشكاوى ) في كل يوم , ثم يجلس مع الكاتب
ساعة , إما في الليل أو في النهار , ويوقع على كل قصة بما يطلق الله على
قلبه , وما استغاث إليه أحد إلا وقف وسمع ظلامته , وأخذ قصته , وكشف كربته , كما قال القاضي ابن شداد .
ورابع تلك المآثر عطفه وشفقته على اليتامى ,
فما أحضر بين يديه يتيم إلا وترحم على من خلّفه , وجبر قلبه , وأعطاه
راتبه إن كان له من أهله كبير يعتمد عليه وسلمه إليه , وإلا أبقى له من
الراتب ما يكفي حاجته , وسلمه إلى من يكفله , ويعتني بتربيته .
وخامس تلك المآثر كرمه وإجلاله للعلم والعلماء
, فقد قال قاضيه : إنه كان يكرم من يرد عليه من المشايخ , وأرباب العلم
والفضل , وذوي الأقدار, وكان يوصينا لئلا نغفل عمن يجتاز بالخيم من
المشايخ المعروفين حتى نحضرهم عنده , وينالهم من إحسانه , وقد جعل في قصره
مكانا لبيع الكتب , يفتح يومين من كل أسبوع , وتباع الكتب فيه بأرخص
الأثمان .
كما كان مجلا
لحفظة القرآن الكريم , وقد مر يوما على صبي صغير بين يدي أبيه , وهو يقرأ
القرآن , فاستحسن قراءته , فأوقف عليه وعلى أبيه مزرعة .
وسادس تلك المآثر محافظته على الصلوات الخمس
في أوائل أوقاتها حتى قال عنه ابن شداد : فما رأيته صلى إلا في جماعة ,
ولم يؤخر له صلاة من ساعة إلى ساعة , وكان له إمام راتب ملازم مواظب , فإن
غاب يوما صلى به من حضره من أهل العلم , إذا عرفه متقيا متجنبا للإثم .
وكان
يواظب على السنن الرواتب , وكان له ركعات يصليها إن استيقظ بوقت من الليل
, وإلا أتى بها قبل صلاة الصبح , وما ترك الصلاة إلا في الأيام الثلاثة
التي تغيب فيها ذهنه , وكان إذا أدركته الصلاة وهو سائر نزل وصلى .
وسابع تلك المآثر ورعه وعفته وتواضعه
, فكان لا يلبس إلا ما يحل لبسه , وتطيب به نفسه كالكتان والقطن والصوف ,
كما كانت مجالسه مصونة من الحظر , ومنزهة من الهزء والهزل , آهلة بأهل
الفضل , وما سُمعت له قط كلمة تسقط , ولا لفظة فظة تسخط , وكان من جالسه لا
يعلم أنه جليس السلطان , بل يعتقد أنه جليس أخ من الإخوان , وكان حليما
مقيلا للعثرات , متجاوزا عن الهفوات تقيا نقيا وفيا صفيا .
يقول أحد المرافقين له : ولقد كان يسمع من المستغيثين إليه والمتظلمين أغلظ ما يمكن أن يسمع , ويلقى ذلك بالبشر والقبول0
ومع
ذلك كان يغضب للكبائر , ولا يغضي عن الصغائر , متشبها برسول الله الذي ما
غضب لنفسه قط , وما كان يغضب إلا إذا انتهك حد من حدود الله , ويرشد إلى
الهدى , ويهدي إلى الرشاد , ويسدد الأمر , ويأمر بالسداد ,وكان مماليكه
وخواصه بل أمراؤه وأجناده أعف من الزهاد .
قال
ابن شداد : وأما صبره فلقد رأيته بمرج عكا , وهو على غاية من مرض , اعتراه
بسبب كثرة دماميل كانت ظهرت عليه من وسطه إلى ركبته , بحيث لا يستطيع
الجلوس , وإنما يكون متكئا على جانبه إذا كان في الخيمة , وامتنع من مد
الطعام بين يديه لعجزه عن الجلوس , وكان يأمر أن يفرق على الناس , وكان مع
ذلك كله يركب من بكرة النهار إلى صلاة الظهر , يطوف على الأطلاب , ومن
العصر إلى صلاة المغرب , وهو صابر على شدة الألم , وقوة ضربان الدماميل ,
وكنا نعجب من ذلك , فيقول ـ رحمه الله ـ إذا ركبت يزول عني ألمها حتى أنزل ,
قال : وهذه عناية ربانية.
وكان
طاهر المجلس لا يذكر بين يديه أحد إلا بالخير , وطاهر السمع , فلا يحب أن
يسمع عن أحد إلا بالخير , وطاهر اللسان , فما رأيته أولع بشتم قط , وطاهر
القلم , فما كتب بقلمه أذى لمسلم قط , وكان حسن العهد والوفاء , وكان ما
يرى شيخا إلا ويرق له , ويعطيه ويحسن إليه , ولم يزل على هذه الأخلاق إلى
أن توفاه الله عز وجل إلى مقر رحمته ومحل رضوانه.
تلكم
بعض مآثر صلاح الدين الأيوبي جمعت في طياتها الأسوة لكل أمير أو مجاهد أو
عابد أو ثري يبتغي الرشاد إلى طريق العزة والنصر والتمكين في الدنيا ,
ومرضاة الله في الآخرة .