يعد إصلاح ذات البين من مكارم الأخلاق العظيمة ، فقد حث عليها الشرع في أكثر من مناسبة ، ففي قوله تعالى"فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم
"التوبة "1" ولأهمية هذه المكرمة جعل لها الإسلام جزءا من مصارف الزكاة
تصرف على الغارمين الذين يسعون للإصلاح بين الناس ، عن الحسن بن علي قال
صلى الله عليه وسلم :" أفضل الصدقة إصلاح ذات البين"(1)
وجاء في حديث رواه الأصبهاني عن أنس بن مالك" من أصلح بين الناس أصلح الله أمره وأعطاه بكل كلمة تكلم بها عتق رقبة، ورجع مغفورا له ما تقدم من ذنبه"(2).
لم ينس الشعراء فضل إصلاح ذات البين فخلدوه في قصائدهم منه:
إنّ المكارم كلها لو حصلت رجعت بجملتهـا إلى شيئين :
تعظيم أمر الله جلَّ جلالـه والسعي في إصلاح ذات البين
وفي
تاريخنا العربي نماذج كثيرة للساعين في إصلاح ذات البين ، تكلفوا المشاق ،
ودفعوا من مالهم الخاص الكثير ، كما فعل الحارث بن عوف وهرم بن سنان ،
وهكذا ظلت هذه الخصلة ملازمة للأخلاق العربية ، ولما جاء الإسلام حث عليها
ورغب فيها ؛ لذا نجد نماذج كثيرة من الذين أعطاهم الله مالا أو جاها يسعون
للتقارب بين الناس ، فالذي حباه الله ميزة تحقق التآلف بين الناس عليه ألا
يبخل بها ، ويستغلها في الخير
وكما قال الشاعر حافظ إبراهيم :
فإذا رزقت خليقة محمودة فقد اصطفاك مقسم الأرزاق
فالناس هذا حظه مال وذا علم وذاك مكارم الأخـلاق
ومن
الرجال الذين كان لهم دور في إصلاح ذات البين بين العرب والمسلمين الأمير
شكيب أرسلان فقد رزقه الله علما وجاها وهمة عاليه ، استغلها في بيان مصائب
أمته ، واستخدم قلمه في مقارعة الاستعمار والاحتلال ، ولم يكتف بهذا بل
نجده يطير الآفاق من أجل أن يصلح بين زعيم وزعيم ، أو أمير وأمير ، أو بين
قبيلة وقبيلة ، أو بين الأسرة الواحدة .
وله أياد
بيضاء في محو كثير من أسباب سوء التفاهم الذي ينشأ أحياناً بين ملوك العرب ،
أو بين أمرائهم ، أو سائر رجالاتهم ، وغالباً ما تكللت مساعيه بالنجاح
بفضل ما كان يتمتع به عندهم من نفوذ وإكرام ، ففي سنة 1934 اختير في الوفد
الذي شكلته لجنة المؤتمر الإسلامي في القدس لحل الخلاف بين الملك عبد
العزيز بن سعود والإمام يحيى، فكان له الفضل في إزالة البغض والشحناء ،
ونظرا لما قام به من جهود مباركة للتقارب بين العرب والمسلمين منحه الملك
عبد العزيز جنسية بلاده ، وقد كتب اسمه في جواز سفره" عطوفة الأمير شكيب
أرسلان" .
ونظر إلى الفرقة التي كانت بين أبناء بلاد
الحضارمة من الإرشاديين والعلويين إلى أندنوسيا فطار هناك، وكان يراها ر
أس البلاء؛ فقد تنازعت الطائفتان نزاعا مريرا ، وكاد الفشل يعصف بهم ، وفي
ذلك يقول الشاعر زين العابدين بن أحمد الجنيد العلوي في قصيدته "حال حضر
موت الاجتماعية" التي قالها عام (1930م):
جُلُّ أُمْنيَّتي صَـــلاحُ بـلادي أَتُـراهُ بها يُسَــــرُّ فؤادي؟
ليْتَ شعري وهلُ يُفيـدُ التَّمـنِّي هلْ يُبَلِّغنيَ الزَّمَـــانُ مُرادي
هل تعودُ حياةُ شعْـبٍ نـراهُ الـ يـومَ تـنتابهُ يدُ الاضطـــهادِ
هلْ تعودُ حياةُ شَعْـبٍ عظيــمٍ فُـصِمَتْ عنْهُ عروةُ الاتِّحــادِ؟
إنَّ منْ لمْ يكُـــنْ لدَيْـهِشُعورٌ بـانْـحِطاطٍ بلادُهُ كـــالْجَمادِ
فالزموا الاتِّحادَ فهْـو لعيْـنِ فوْزِ لوْ تعْلمـونَ مثْـلَ السَّـواد
فتدخل فيها مع محمد رشيد رضا وعملا جاهدين لإطفاء نار الفتنة بين الفريقين، وتم لهما ما أرادا.
كذلك
اهتم " بأحوال المسلمين في أنحاء العالم المختلفة، ففي عام (1344هـ =
1924م) أسس جمعية "هيئة الشعائر الإسلامية" في "برلين"، وكانت تهدف إلى
الاهتمام بأمور المسلمين في "ألمانيا"، وقد تشكلت هذه الجمعية من أعضاء
يمثلون معظم الشعوب الإسلامية، وأهم ما يميزها أنها نحت منحى دينيًا بعيدًا
عن الشؤون السياسية، وذلك لتلافي أسباب الخلاف والشقاق التي قد تنجم عن
اختلاف الأيدلوجيات السياسية بين الشعوب والدول المختلفة ، ومن خلال هذه
الجمعية أرسى مبادئ إصلاح ذات البين بين أعضائها من جهة وبينهم وبين العرب
والمسلمين من جهة أخرى.
كما
انتخب شكيب في تموز 1926 في لجنة رئاسة مؤتمر الخلافة، وحركة مؤتمر
الخلافة حركة إسلامية عارمة ثارت بعد قرار كمال أتاتورك إلغاء الخلافة في
آذار 1924 ، وقطع روابط تركيا بالعرب والمسلمين ،
وقام بعدة مأموريات عام 1902 في جبل حوران لإقناع الثوار من بني ملَّته
هناك بالرجوع إلى طاعة الدولة العثمانية، وكان حاسماً وواضحاً في موقفه من
ضرورة وحدتهم ، والتفافهم حول الدولة في تلك المرحلة التي تكالب عليها
الطامعون من كل حدب وصوب ، فقد كان الأمير يرى أن الالتفاف مع الدولة
العثمانية بالرغم مما وصلت إليه من ضعف وتدهور خير من الالتفاف مع الدول
الاستعمارية الطامعة بأرضنا ، بالرغم من الوعود الكاذبة التي لا تنطلي على
العارفين ببواطن الأمور.
ولما ذاعت شهرته في الأفاق وعرفه أهل الخير فيما يسعى إليه دعاه عرب
المهجر في أمريكا الشمالية إلى ترؤس مؤتمرهم المنعقد في (ديترويت) فلبى
الدعوة عام 1927، وسافر إلى أمريكا بعد أن طاف في روسيا وألمانيا وفرنسا
وإيطاليا، قابل خلال زياراته الجاليات العربية مؤكدا على التآلف والتفاهم ،
وفي هذه البلدان أخذ يغذي الصحف العربية في كل مكان بالمقالات التي تؤلف
بين المسلمين ، وتبصرهم بما يخطط له الأعداء.
وعندما
اشتدت الهجرة اليهودية إلى فلسطين أدرك شكيب أرسلان الخطر الذي سيحدق
بالبلاد فعمل جاهدا من أجل القضية ، ولما رأى أن زعماء فلسطين يتناحرون
فيما بينهم على زعامات فارغة حذرهم من الخلاف والشقاق ؛ لأن ذلك مما يقوي
آمال الإنجليز واليهود ، ويعظم أطماعهم في فلسطين.
والزائر
لمدينة السويداء السورية يسمع مثلا متداولا بين أهلها يضرب للزهد في الشيء
، وهذا المثل " بلاكِ يا أم حارتين" وإذا سأل السامع عن قصته يقال له :
قبل أكثر من سبعين عاما وفي بداية الأربعينات حدثت حربا ضروسا بين قبيلتي"
الحلبي والمغويش" بسبب النزاع على ملكية قرية صغيرة تسمى " أم حارتين" وراح
ضحية تلك الحروب والنزعات عشرات القتلى من الطرفين ، ولما علم الأمير شكيب
أرسلان بما جرى توجه إلى السويداء ، وجمع المتخاصمين في مضارب أعدت خصيصا
لهذه المناسبة ، وتكلم كل زعيم بأحقيته في ملكية قبيلته للقرية الصغيرة ،
وبعد أن أنهى الطرفان مرافعتهما وقف الأمير قائلا : الآن سأقول رأيي وكلامي
فصل في هذه القضية أتوافقون ؟ رد القوم نوافق، قال الأمير لزعيم قبيلة
الحلبي" بلاكِ يا أم حارتين" .
وهكذا انتهى صراع دام سنوات عديدة بين قبيلتين متناحرتين على زعامة قرية صغيرة ، وهكذا
يضرب لنا شكيب أرسلان أروع الأمثال في جهوده الرامية للإصلاح بين ذات
البين ، ولا سيما في أوقات كان العرب والمسلمون في أشد الحاجة إليها ،
فالمستعمر يبني سياسته على قاعدة " فرق تسد" وفي ظل هذه السياسة ينفذ خططه
الاستعمارية ، فقد يستميل طرفا على حساب طرف آخر ، ولكن إذا كانت البلاد
موحدة لا مكان للفرقة فيها فيصعب احتلالها ، فيسعى إلى تمزيقها ، وبذر
الشقاق بين أهلها، وما أحوجنا اليوم إلى مصلحين ممن أعطاهم الله المال أو
الجاه أو كليهما للسعي للإصلاح بين الناس كما فعل مالك بن عوف وهرم بن سنان
، ومن بعدهما الأمير شكيب أرسلان أمير البيان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وذكره المنذري في الترغيب والترهيب ج 3 ص 394
2) المنذري : الترغيب والترهيب ج3 ص 489
المصدر : رابطة أدباء الشام