كثيرون
هم الذين اشتهروا ببعض خصال الخير على مر التاريخ، ولكن قلة منهم جُمعت
فيهم كل الخصال، فلا تكاد تذكر خلة إلا وصفوا بها، ومن هذه القلة عبد الله
بن عمر رضي الله عنهما الذي قيل عنه: إنه مات وما على الأرض شبيه به.. فمن
هو عبد الله بن عمر؟
إنه
عبد الله بن عمر بن الخطاب بن نفيل القرشي العدوي، ولد في بداية بعثة
النبي صلى الله عليه وسلم، وأسلم مع أبيه وهو صغير لم يبلغ الحلم، ونشأ في
طاعة الله، فدخل في حيز السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله،
ثم كان في طليعة المهاجرين إلى المدينة المنورة؛ إذ هاجر قبل أبيه وهو لم
يتجاوز العاشرة من عمره.
فاته
فضل المشاركة في غزوتي بدر وأحد، لكن لم يفته فضل السبق مع رسول الله صلى
الله عليه إلى باقي الغزوات، خاصة غزوة الحديبية التي تمت فيها بيعة
الرضوان، وقال الله فيمن شهدها: {لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ
إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ
فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا}
(الفتح: 18).
كان
من أهل الورع والعلم، كثير الحرص على اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم،
شديد التحري والاحتياط والتوقي في كل ما يصدر عنه من قول أو فعل، حتى قال
في نهاية حياته: "لقد بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فما نكثت ولا
بدّلت إلى يومي هذا".
شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم له :
ذُكر
عن مولاه نافع أنه قال: "رأيت في المنام كأنما بيدي قطعة إستبرق، ولا أشير
بها إلى موضع من الجنة إلا طارت بي إليه، فقصصتها على حفصة رضي الله عنها،
فقصتها حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم،
فقال لها: "إن أخاك رجل صالح، أو: إن عبد الله رجل صالح" وفي حديث آخر "إن
أخاك عبد الله رجل صالح، لو كان يقوم من الليل"؛ يقول نافع: "فما ترك ابن
عمر بعدها قيام الليل".
شهادة الصحابة والصالحين له:
قال
الصحابي جابر بن عبد الله رضي الله عنه: "ما منا أحد إلا مالت به الدنيا
ومال بها، ما خلا عمر وابنه عبد الله"، وقال عبد الله بن مسعود: "إن أملك
شباب قريش لنفسه في الدنيا عبد الله بن عمر رضي الله عنه"،
وقال ميمون بن مهران: "ما رأيت أورع من ابن عمر"، وقال مالك بن أنس: "كان
ابن عمر من أئمة المسلمين"، وقال السدي: "رأيت نفرا من الصحابة كانوا يرون
أنه ليس أحد فيهم على الحالة التي فارق عليها النبي صلى الله عليه وسلم إلا
ابن عمر".
وقال
أبو سلمة بن عبد الرحمن: "مات ابن عمر وهو مثل عمر في الفضل"، وفي رواية
أخرى: "كان عمر في زمان له فيه نظراء، وكان ابن عمر في زمان ليس فيه نظير"،
وقال سعيد بن المسيب: "كان ابن عمر حين مات خير مَن بقي"، وقال ابن الحنفية: "كان ابن عمر خير هذه الأمة".
شدة تأسيه بالرسول صلى الله عليه وسلم:
كان
عبد الله بن عمر رضي الله عنه كثير الاتباع لآثار رسول الله صلى الله عليه
وسلم، شديد الحرص على التأسي به في كل شيء، حتى إنه كان إذا نزل بمنزل من
المنازل التي نزل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في ألا يصلي إلا
في المكان الذي كان يصلي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان
يعترض براحلته في كل طريق مر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويُسأل عن
سبب ذلك فيقول: أتحرى أن تقع أخفاف راحلتي على بعض أخفاف راحلة رسول الله
صلى الله عليه وسلم.
ودفعه حب التأسي به إلى أنه كان يقلده في كل شيء حتى في صبغ شعر رأسه ولحيته،
فقد ورد عن زيد بن أسلم أنه كان يُصفّر شعر رأسه ولحيته، فقيل له: تصبغ
بالصفرة؟ فقال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بها.
ولم
يكن رضي الله عنه شديد الحرص على التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم
فحسب، بل كان شديد الالتزام بأوامره صلى الله عليه وسلم ونواهيه، فقد ذكر
نافع مولاه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لو تركنا هذا
الباب للنساء" فما دخل منه (أي عبد الله) بعد ذلك حتى مات.
كما كان رضي الله عنه شديد الحرص على التدقيق في رواية أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى
قيل عنه: "لم يكن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع من
رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا أحذر أن لا يزيد فيه ولا ينقص منه
ولا.. ولا.. من عبد الله بن عمر بن الخطاب".
ولم
يكن ذلك يعني أن غيره من الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتساهلون في
الرواية، وإنما معناه أنه كان شديد التدقيق لما يسمع قبل أن يحدث به. وفوق
ذلك كان لا يسمع ذكر النبي صلى الله عليه وسلم إلا بكى.
ورعه الشديد:
حدث
ابن جريج عن طاووس أنه قال: "ما رأيت رجلا أورع من ابن عمر رضي الله عنه"،
وقد ظهر هذا الورع في امتناعه عن الانضمام لإحدى الطائفتين اللتين اقتتلتا
بعد استشهاد عثمان بن عفان رضي الله عنه،
مع إقراره بأن عليا رضي الله عنه كان أقرب إلى الحق، فقد جاء عن ميمون بن
مهران أنه (أي ابن عمر) دخل عليه رجل فسأله عن تلك المشاهد فقال: كففت يدي،
فلم أقدم، والمقاتل على الحق أفضل.
وكذلك
كان شديد الحذر والتحوّط في أمور الفتيا، بعد أن طال عمره وصار مرجعا
للناس يرجعون إليه فيما يعِنّ لهم، فقد جاءه يوما رجل يستفتيه، فأجابه
قائلا: "لا علم لي بما تسأل عنه"؛ فلما ولى الرجل قال: "سئل ابن عمر عما لا
يعلم، فقال لا أعلم".
ولم
يكن ذلك لعجز فيه، أو لأنه أراد أن يترك الرجل حائرا بمسألته، وإنما ـ
والله أعلم ـ لأنه أحس أن الرجل يريد أن يتخذ من فتواه ذريعة، بدليل أنه
جاء في رواية أخرى عن عقبة بن مسلم أنه (أي ابن عمر) سُئل عن شيء فقال: لا
أدري، ثم قال: أتريدون أن تجعلوا ظهورنا جسورا في جهنم تقولون: أفتانا بهذا
ابن عمر.
وهذا
الحذر لنفسه والورع الشديد جعله يأبى أن يلي من أمر المسلمين شيئا خشية أن
يقصر في واجبه نحوهم، وبعدما رأى من كثرة تَقوّل الناس على أمرائهم، فقد
دعاه يوما الخليفة عثمان رضي الله عنهما، وطلب إليه أن يشغل منصب القضاء
فقال: أوتعفيني يا أمير المؤمنين؟
فقال عثمان رضي الله عنه: لا، فلما ألح عليه قال له: لا تعجل يا أمير
المؤمنين، ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من عاذ بالله فقد
عاذ بمعاذ" قال: بلى، قال: فإني أعوذ بالله أن أكون قاضيا، فقال عثمان رضي
الله عنه: وما يمنعك من ذلك وأبوك كان يقضي بين الناس، فقال له: بلغني أن
القضاة ثلاثة: قاض يقضي بجهل فهو في النار، وقاض يقضي بهوى فهو في النار،
وقاض يجتهد ويصيب فهو كفاف، لا وزر ولا أجر، وإني لسائلك بالله أن تعفيني".
فأعفاه
عثمان رضي الله عنه بعد أن أخذ عليه العهد ألا يخبر أحدا بهذا؛ حتى لا
يمتنع الصالحون عن القضاء أسوة به، فلا يجد عثمان رضي الله عنه من يعينه
على القضاء بين الناس.
وأراد علي رضي الله عنه أن يوليه الشام، ويستبدله بمعاوية فقال:
يا أبا عبد الرحمن! إنك رجل مطاع في أهل الشام، فسر فقد أمّرتك عليهم، فرد
عليه بقوله: أذكرك الله، وقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتي
إياه، إلا ما أعفيتني".
ولما
تنازل معاوية بن يزيد عن الخلافة أتاه مروان بن الحكم في نفر من الناس،
وعرضوا عليه أن يبايعوا له بالخلافة فقال لهم: وكيف لي بالناس الذين لا
يرضون خلافتي من أهل المشرق (يقصد الشيعة)؟ فقالوا: تقاتلهم ونقاتلهم معك،
فقال ابن عمر: والله لو اجتمع عليّ أهل الأرض إلا أهل فدك ما قاتلتهم.
وفي
رواية أخرى أن الناس أتوه فقالوا: أنت سيد الناس وابن سيدهم، والناس بك
راضون، اخرج نبايعك، فقال: لا والله لا يهراق فيّ محجمة من دم ولا في سببي
ما كان فيّ روح.
وجاء
عن ميمون بن مهران أن معاوية أرسل إلى عبد الله بن عمر من يقول له: يا أبا
عبد الرحمن ما يمنعك أن تخرج تبايعك الناس، أنت صاحب رسول الله صلى الله
عليه وسلم وابن أمير المؤمنين، وأنت أحق الناس بهذا الأمر، فقال عبد الله:
قد اجتمع الناس كلهم على ما تقول؟ قال: نعم، إلا نفر يسير، فقال عبد الله:
لو لم يبق إلا ثلاثة أعلاج بهجر لم يكن لي فيها حاجة.
ولم
يكن ذلك إلا لخشيته من الله سبحانه وتعالى، يقول نافع مولاه: دخل ابن عمر
الكعبة، فسمعته وهو ساجد يقول: "قد تعلم يا ربي ما يمنعني من مزاحمة قريش
على الدنيا إلا خوفك".
مسالمته للناس جميعا:
كان
ابن عمر رضي الله عنه حريصا على مسالمة المسلمين جميعا، يراهم أمة واحدة
وإن اختلفت مذاهبهم، لا يعادي منهم أحدا وإن خالف رأيه، يقول يونس بن عبيد
عن نافع أنه (أي ابن عمر) كان يسلم على الخشيبة (يقصد الشيعة من أتباع
المختار بن أبي عبيد) والخوارج وهم يقتتلون،
ويقول: من قال "حي على الصلاة" أجبته، ومن قال "حي على قتل أخيك المسلم
وأخذ ماله" فلا؛ لذلك نال تقدير الجميع، وما سمعنا عن أحد عاداه من أهل
الفرق المختلفة.
كرمه وسخاؤه:
كان عبد الله بن عمر رضي الله عنه مضرب المثل في الكرم والسخاء، وكان كثير الصدقة، وربما تصدق في المجلس الواحد بثلاثين ألفا،
وإن سبقه آخرون فقد سبقوه في البذخ والإسراف وليس في الكرم، ولا أدل على
ذلك من قول نافع مولاه: إنه ما مات حتى أعتق ألف إنسان، أو ما زاد.
ويحكي
عنه ابنه حمزة أنه قال يوما: خطرت لي هذه الآية: {لن تنالوا البر حتى
تنفقوا مما تحبون} فذكرت ما أعطاني الله عز وجل فما وجدت شيئا أحب إلي من
جاريتي رمينة، فقلت: هي حرة لوجه الله، فلولا أني لا أعود في شيء جعلته لله
لنكحتها، فأنكحها نافعا مولاه، فهي أم ولده، وكان رضي الله عنه إذا اشتد
عجبه بشيء من ماله قربه إلى ربه عز وجل.
وقال
نافع: ولقد رأيتنا ذات عشية، وراح ابن عمر على نجيب (جمل حسن) له قد أخذه
بمال، فلما أعجبه سيره أناخه بمكان ثم نزل عنه، فقال: يا نافع، انزعوا عنه
زمامه ورحله وأشعروه وجللوه وأدخلوه في البدن.
وقال
نافع: خرج ابن عمر في بعض نواحي المدينة، ومعه أصحاب له، فلما وضعوا له
سفرة الطعام مر بهم راعي غنم، فسلم، فقال ابن عمر: هلم يا راعي فأصب من هذه
السفرة، فقال له: إني
صائم، فقال ابن عمر: أتصوم في مثل هذا اليوم الحار الشديد سمومه، وأنت في
هذا الحال ترعى هذه الغنم؟ فقال الأعرابي: والله إني أبادر أيامي هذه
الخالية، فقال له ابن عمر -وهو يريد أن يختبر ورعه-: فهل لك أن تبيعنا شاة
من غنمك هذه فنعطيك ثمنها، ونعطيك من لحمها ما تفطر عليه؟ فقال الأعرابي:
إنها ليست لي بغنم، إنها غنم سيدي، فقال له ابن عمر: فما يفعل سيدك إذا
فقدها؟ فولى الراعي عنه، وهو رافعٌ أصبعه إلى السماء، وهو يقول: فأين الله؟
فجعل ابن عمرو يردد قول الراعي، يقول: " قال الراعي: فأين الله"؟ فلما قدم
المدينة بعث إلى مولاه، فاشترى منه الغنم والراعي، فأعتق الراعي ووهب منه
الغنم.
وقال
نافع أيضا: كان رقيقه (أي ابن عمر) قد عرفوا ذلك منه، فربما شمر أحدهم
فيلزم المسجد، فإذا رآه ابن عمر على تلك الحالة الحسنة أعتقه، فيقول له
أصحابه: يا أبا عبد الرحمن، والله ما بهم إلا أن يخدعوك، فيقول: ما خدعنا
أحد بالله إلا انخدعنا له.
وقال
ميمون بن مهران: مر أصحاب نجدة الحروري بإبل لابن عمر فاستاقوها فجاء
الراعي فقال: يا أبا عبد الرحمن احتسب الإبل وأخبره الخبر قال: فكيف تركوك
قال: انفلت منهم لأنك أحب
إلي منهم، فاستحلفه فحلف فقال: إني أحتسبك معها فأعتقه، فقيل له بعد ذلك:
هل لك في ناقتك الفلانية تباع في السوق فأراد أن يذهب إليها ثم قال: قد كنت
احتسبت الإبل فلأي معنى أطلب الناقة.
وحدث
عمر بن محمد بن زيد عن أبيه أن ابن عمر كاتب غلاما (عبدا) له بأربعين
ألفا، فخرج العبد إلى الكوفة، فكان يعمل على حمر له، حتى أدى خمسة عشر
ألفا، فجاءه إنسان، فقال: أمجنون أنت؟ أنت ها هنا تعذب نفسك، وابن عمر
يشتري الرقيق يمينا وشمالا، ثم يعتقهم، ارجع إليه، فقل: عجزت (أي عن جمع
المال).
فجاء
إليه بصحيفة، فقال: يا أبا عبد الرحمن! قد عجزت، وهذه صحيفتي، فامحها (أي
أبطل ما فيها من عقد) فقال عبد الله: لا، ولكن امحها أنت إن شئت، فمحاها
الغلام ففاضت عينا عبد الله وقال له: اذهب فأنت حر، فقال الغلام: أصلحك
الله، أحسن إلى ابنَي، فقال: هما حران.
وقال نافع: بعث معاوية إلى ابن عمر بمائة ألف فما حال عليه الحول وعنده منها شيء.
زهده في الدنيا ونعيمها:
ومع
كثرة مال ابن عمر رضي الله عنه وكرمه وسخائه فإنه كان مقتصدا في طيباته،
يقول ابنه حمزة: لو أن طعاما كثيرا كان عند أبي ما شبع منه بعد أن يجد له
آكلا، وقد عاده ابن مطيع يوما فرآه قد نحل جسمه فكلمه فقال: إنه ليأتي علي ثمان سنين ما أشبع فيها شبعة واحدة؛ فالآن تريد أن أشبع حين لم يبق من عمري إلا ظمء حمار.
وقد
أهداه يوما أحد إخوانه القادمين من خراسان حلة ناعمة أنيقة، وقال له: لقد
جئتك بهذا الثوب من خراسان، وإنه لتقر عيناي إذ أراك تنزع عنك ثيابك الخشنة
هذه، وترتدي هذا الثوب الجميل، فقال له ابن عمر: أرنيه إذن.. ثم لمسه
وقال: أحرير هذا؟ قال صاحبه: لا.. إنه قطن. وتملاه عبد الله قليلا، ثم دفعه
بيمينه وهو يقول: "لا إني أخاف على نفسي.. أخاف أن يجعلني مختالا فخورا..
والله لا يحب كل مختال فخور".
ويقول
عن نفسه: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً ببعض جسدي، وقال: يا عبد
الله، كن في الدنيا كأنك غريب أو كأنك عابر سبيل، وعد نفسك في أهل القبور،
ثم قال لي: يا عبد الله بن عمر، فإنه ليس ثم دينار ولا درهم، إنما هي
حسنات وسيئات، جزاء بجزاء، وقصاص بقصاص".
وكان مع زهده عزيزًا في نفسه؛ فقد روي أنه قال:
لولا أن معاوية بالشام لسرني أن آتي بيت المقدس، فأهل منه بعمرة، ولكن
أكره أن آتي الشام فلا آتيه، فيجد (يحزن) علي، أو آتيه فيراني (يظنني)
تعرضت لما في يديه.
اجتهاده في العبادة:
وكما
بزّ عبد الله رضي الله عنه أقرانه في الكرم والحرص على طاعة رسول الله صلى
الله عليه وسلم بزهم أيضا في العبادة والاجتهاد فيها؛ فكان يحيي الليل
صلاةً، فإذا جاء السحر استغفر إلى الصباح.
وقال
ابن المبارك: أنبأنا عمر بن محمد بن زيد أن أباه أخبره أن عبد الله بن عمر
كان له مهراس فيه ماء فيصلي ما قدر له ثم يصير إلى الفراش فيغفي إغفاء
الطائر ثم يقوم فيتوضأ، ثم يصلي فيرجع إلى فراشه فيغفي إغفاء الطائر ثم يثب
فيتوضأ ثم يصلي يفعل ذلك في الليل أربع مرات أو خمسا. وجاء في كتاب الزهد
لأحمد عن ابن سيرين أن: ابن عمر كان كلما استيقظ من الليل صلى.
وقيل
لنافع: "ما كان ابن عمر يصنع في منزله قال: الوضوء لكل صلاة، والمصحف فيما
بينهما"، وهو بالطبع يقصد الأيام الأخيرة من حياته التي تفرغ فيها لعبادة
الله سبحانه وتعالى بعد أن كبر أولاده وكثر ماله واستغنى عن العمل والسعي،
وصار له من يكفيه.
وروى
الطبراني عن نافع أن ابن عمر كان يحيي الليل صلاة ثم يقول: يا نافع أسحرنا
فإن قال لا عاود الصلاة فإذا قال نعم قعد يستغفر الله حتى يصبح.
وجاء
في كتاب الزهد لابن المبارك أيضا أن ابن عمر كان يصلي ما قدر له، ثم يأوي
إلى فراشه فيغفي إغفاء الطائر، ثم يقوم فيتوضأ ويصلي ثم يرجع.
وقال نافع: كان ابن عمر لا يصوم في السفر، ولا يكاد يفطر في الحضر.
وكان
يحرص وقت العبادة على ألا ينشغل بشيء من أمور الدنيا، يقول عروة: خطبت إلى
ابن عمر ابنته، ونحن في الطواف، فسكت ولم يجبني بكلمة، فقلت: لو رضي،
لأجابني، والله لا أراجعه بكلمة.
فقدر
له أنه صدر إلى المدينة قبلي، ثم قدمت، فدخلت مسجد الرسول صلى الله عليه
وسلم، فسلمت عليه، وأديت إليه حقه، فرحب بي، وقال: كنت ذكرت لي سودة ونحن
في الطواف، نتخايل الله بين أعيننا، وكنت قادرا أن تلقاني في غير ذلك
الموطن.
علمه الواسع:
قال
مالك بن أنس: "أقام ابن عمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم ستين سنه يقدم
عليه وفود الناس"، وقال أيضا: "كان إمام الناس عندنا بعد عمر زيد بن ثابت،
وكان إمام الناس عندنا بعد زيد ابن عمر"، وقال الزهري: "فلم يخف عليه شيء
من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه".
وقال ابن محيريز: "والله إن كنت لأعد بقاء ابن عمر أمانًا لأهل الأرض".
ويكفي دلالة على سعة علمه قول مالك: "أفتى ابن عمر الناس في الإسلام ستين سنة"، وكان يقول لهم: ولو علمت أني أبقى حتى تفتقروا إلي، لتعلمت لكم".
ومع
هذا الفضل كان لا يرضى لأحد أن يمدحه، فقد قال له رجل يوما: "لا يزال
الناس بخير ما أبقاك الله لهم"؛ فغضب وقال: وما يدريك علامَ أغلق بابي، ما
أنا بخير الناس، ولا ابن خير الناس، ولكني عبد من عباد الله، أرجو الله،
وأخافه، والله لن تزالوا بالرجل حتى تهلكوه"، أي بسبب المدح المبالغ فيه.
جهاده في سبيل الله:
ذُكر
فيما سبق أن عبد الله بن عمر فاته الاشتراك في غزوتي "بدر" و"أحد" لصغر
سنه ثم حرص بعد ذلك على الاشتراك في باقي غزوات النبي صلى الله عليه وسلم،
وبعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى العراق فشهد وقعة
القادسية ويوم جلولاء وما بينهما من وقائع الفرس، وغزا المدائن غير مرة،
وشهد وقعة اليرموك، وشارك في فتح مصر وإفريقية.
حسن خلقه:
الدين
حسن الخلق، هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ابن عمر قد جمع إلى
حسن عمله حسن خلقه، وكان شعاره: "البر شيء هين: وجه طلق، وكلام لين"،
يقول الزهري عن سالم ابنه: "ما لعن ابن عمر خادما قط إلا واحدا فأعتقه"
وعن الزهري أن ابن عمر أراد أن يلعن خادما فقال: اللهم الع.. فلم يتمها،
وقال: إنها كلمة ما أحب أن أقولها.
وعن زيد بن أسلم قال: "جعل رجل يسب ابن عمر وابن عمر ساكت فلما بلغ باب داره التفت إليه فقال: إني وأخي عاصم لأنسب الناس". أي أنه ما سكت عن الرد عليه لعجزه أو لعدم معرفته بمثالب هذا الرجل.
ولقيه
رجل يوما فقال له: ما أحد شر لأمة محمد منك! قال ابن عمر: ولِمَ؟ فوالله
ما سفكت دماءهم، ولا فرقت جماعتهم، ولا شققت عصاهم، فقال الرجل: إنك لو شئت
ما اختلف فيك اثنان، فقال ابن عمر: ما أحب أنها أتتني، ورجل يقول: لا،
وآخر يقول: نعم.
لزومه للحق ولو خالف هواه:
كان ابن عمر رضي الله عنه مثالا للعالم الذي لا يغلبه هوى، ولا يعلوه الكبرياء أو التعصب لرأيه، وإنما كان يسير مع الحق حيث كان،
فقد اعترض على يوما على أبي هريرة رضي الله عنه حين حدّث عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم بقوله: "من تبع جنازة، فصلى عليها، فله قيراط، فإن شهد
دفنها، فله قيراطان، القيراط أعظم من أحد"، لكنه لما استوثق من هذا الحديث
بتصديق عائشة رضي الله عنها له، وأيقن بصدقه، ذهب إلى أبي هريرة وقال له:
"أنت يا أبا هريرة كنت ألزمنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلمنا
بحديثه".
مظاهر اعتزاله للفتنة:
حرص ابن عمر رضي الله عنه بعد مقتل عثمان رضي الله عنه على أن ينأى بنفسه عن الفتنة التي أعقبت مقتله، وأصر على ألا يغمس يده فيها،
وقد ظهر ذلك من خلال رده على الرجل الذي قال له: "يا أبا عبد الرحمن، أنت
ابن عم.. وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت وأنت، فما يمنعك من
هذا الأمر -يعني نصرة علي-؟؟ إذ أجابه قائلا: "يمنعني أن الله تعالى حرّم
عليّ دم المسلم، لقد قال عز وجل: {قَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ
فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} (البقرة: 139) ولقد فعلنا وقاتلنا
المشركين حتى كان الدين لله، أما اليوم. فيم نقاتل..؟؟
لقد قاتلت والأوثان تملأ الحرم.. من الركن إلى الباب، حتى نضاها الله من أرض العرب.. أفأقاتل اليوم من يقول لا اله إلا الله"؟!.
ولذلك
آثر أن ينتظر حتى يرى من تجتمع عليه الأمة فيدخل تحت لوائه، ويقدم له
البيعة، ولما بلغه أن معاوية قد استخلف ابنه يزيد من بعد قال مقولته
الشهيرة: "إن كان خيرا رضينا، وإن كان بلاء صبرنا".
وكان
يلوم على من فرقوا أمة المسلمين وتنازعوا على الولاية بالسيف فأضاعوا
أمتهم، يقول أبو العالية البراء: "كنت أمشي يوما خلف ابن عمر، وهو لا يشعر
بي، فسمعته يقول لنفسه: واضعين سيوفهم على عواتقهم، يقتل بعضهم بعضا،
يقولون: يا عبد الله بن عمر، أعط يدك"؟!.
وقال
له رجل: يا أبا عبد الرحمن، ألا تسمع قوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ
إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ
إِلَى أَمْرِ اللهِ} (الحجرات: فقال له: لئن أعتبر بهذه الآية، فلا
أقاتل، أحب إلي من أن أعتبر بالآية التي يقول فيها: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا
فجزاؤه جهنم خالدا فيها} (النساء: 92) فقال له الرجل: ألا ترى أن الله
يقول: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة} (البقرة: 193) فقال: قد فعلنا على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان الإسلام قليلا، وكان الرجل يفتن في
دينه، إما أن يقتلوه، وإما أن يسترقوه، حتى كثر الإسلام، فلم تكن فتنة. وكان
يحدث عن تلك الفتنة فيقول: إنما مثلنا في هذه الفتنة كمثل قوم يسيرون على
جادة يعرفونها، فبينا هم كذلك، إذ غشيتهم سحابة وظلمة، فأخذ بعضهم يمينا
وشمالا، فأخطأ الطريق، وأقمنا حيث أدركنا ذلك، حتى جلا الله ذلك عنا،
فأبصرنا طريقتا الأول فعرفناه، فأخذنا فيه.
وهذا لم يمنعه رضي الله عنه بأن يقر لأهل الفضل في تلك الفتنة بفضلهم، ويشهد لهم أنهم على الحق، فقد ساءل ذات يوم سائل:
ما قولك في عثمان وعلي رضي الله عنهما؟ فقال: أما عثمان، فكان الله عفا
عنه، وكرهتم أن يعفو الله عنه، وأما علي فابن عم رسول الله صلى الله عليه
وسلم وختنه وأشار بيده، هذا بيته حيث ترون.
كما
أن ذلك لم يمنعه من أن يسعى في الصلح بين المسلمين ولمِّ شملهم، فقد كان
على رأس من اجتمعوا مع الحكمين بعد صفين للفصل فيما حديث من خلاف بين أهل
الشام وأهل العراق.
كما
أنه لم ينعزل يوما عن الناس ويخلو بنفسه، وإنما كان يخرج إليهم ويخالطهم
ويعايشهم ليجدوا في معاملته الأسوة والقدوة، وقد ذكر عنه أنه قال: إني
لأخرج ومالي حاجة إلا أن أسلم على الناس، ويسلمون علي.
وما
تخلى رضي الله عنه عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ظل تلك الفتنة
حتى آخر لحظة من حياته، فقد وطأ رجل بحربة له على قدمه وهو يؤدي شعائر الحج
بمكة فأصابتها،فمرض منها أياما فدخل عليه الحجاج يعوده فقال له: من فعل بك فأخذ يعاتبه ويقول: أنت الذي أمرت بإدخال السلاح في الحرم.
وفاته:
وقد
مات رضي الله عنه سنة 73هـ بمكة جراء إصابته في قدمه، ليكون ضحية الفتنة
التي طالما حرص على أن ينأى بنفسه عنها، وصدق الله القائل: {واتَّقُوا
فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (الأنفال:
25)، وكان آخر من مات بها من الصحابة، وصلى عليه الحجاج، ودفن بذي طوى في مقبرة المهاجرين، رحمه الله رحمة واسعة وحشرنا معه وسائر الصالحين يوم القيامة، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.