لم ينقطع ظهور حركات الإصلاح التي كانت تسعى إلى بناء مشروعات
للنهضة على أساس من الدين ، في تاريخ القارة السمراء ، وإذا ذكرت حركات
الإصلاح الدينية في إفريقيا (قارة الإسلام) يأتي في مقدمتها على الإطلاق
حركة الشيخ (عثمان دان فوديو) التي نمت في بلاد الهوسا والفولاني بين شمال
نيجيريا وما يعرف اليوم بـ ( تشاد) وأدت إلى قيام دولة إسلامية على امتداد
ما يقارب قرنا من الزمن ، بين أوائل القرن التاسع عشر وأوائل القرن
العشرين. وهي الحركة التي كان لمؤسسها الأثر الحاسم في إرساء دعائم الدعوة
في تلك المنطقة ، بل في القارة الإفريقية بكاملها.
نشأته في بيئة علم :
ولد
الشيخ (عثمان بن محمد فوديو) على الأرجح عام 1168 للهجرة الموافق 15
ديسمبر من عام 1754م ، واسم فوديو الذي اشتهر به والده يعني بلغة
الفولانيين الفقيه ، وكانت ولادته في قرية (تغل) بمنطقة (غوبر) إحدى مناطق
بلاد (الهوسا).
نشأ (الشيخ عثمان) في حجر والدين
صالحين كانا لهما الفضل الكبير في توجيهه إلى العلم والدين الذي أولع به
منذ أن عرف الحلم ، إذ هداه الله إلى نور الإيمان وأضاء به قلبه ، فأدرك ما
يعانيه شعبه من مآس وفتن نتيجة سيادة الأفكار الخاطئة وآثار الجاهلية
الخبيثة ، فعمل بوعي وتصميم على تغيير هذا الواقع ، ففتح الله على يديه
بلاداً واسعة وشعوباً كثيرة ، وأسس حركته التي ما زالت آثارها باقية إلى
وقتنا الحالي.
وكان يفتخر في كثير من المناسبات بدور
والدته (حواء) وجدته (رقية) في تعليمه صغيراً ، وهو ما يعكس المستوى العلمي
الذي كانت عليه عائلته ، خاصة نساءها اللواتي كن على مستوى عال من العلم
والمعرفة.
ومن أشهر أساتذته الشيخ (جبريل) الذي قام
بواجبه تجاه تلميذه مرتين : الأولى عندما قدم للشيخ علوماً مفيدة ساهمت في
تكوين شخصيته العلمية والسياسية ، والثانية عندما كان أول من بايعه على
الجهاد في سبيل نشر الإسلام في تلك المنطقة ، واعترف له بالولاية وعقد له
الراية ، وفي المقابل لم يكن (الشيخ) أقل سمواً من معلمه : فقد كان يردد
بشكل دائم هذا البيت من الشعر :
إن قيل في بحسن الظن ما قيل ** فموجة أنا من أمواج جبريلا
الدعوة في الأوساط الوثنية:
وفي
وسط بيئة تسودها الأفكار والعادات والتقاليد الجاهلية ، بدأ الشيخ عثمان
بن فوديو عمله الشاق في الدعوة إلى الله ، حيث كان المجتمع تحكمه مجموعة من
الملوك والأمراء الذين يتطاحنون على حق السيادة ، ويتنازعون على الأرض
والأرزاق واستعباد الناس ، فقد عرفت المناطق الإفريقية الواقعة جنوب
الصحراء عصراً من عصور الملكية المطلقة ، تميز بالصراعات التي أودت بحياة
الكثير من أبنائها ، بسبب سيادة الأفكار القبلية التي لا مجال معها للوحدة
بين القبائل دون غالب أو مغلوب ، بحيث تستمر حلقات الصراع القبلي دون توقف ،
مع ما يرافق ذلك من سيادة العقلية الحربية التي تضع شرائح كبيرة من
المجتمع في دائرة الاستضعاف ، وتحول دون التفكير في بناء وحدة تحت راية
واحدة ولغة واحدة وأهداف واحدة ، وبالتالي إنتاج حالة أكثر تقدماً مما كان
موجوداً سابقاً ، لا سيما أن هؤلاء الملوك كانوا على عقائد وثنية متخلفة ،
ما زالت بقاياها قائمة حتى أيامنا هذه عبر ما يسمى بالعقائد الأرواحية
التقليدية.
فمن العادات التي كانت سائدة على سبيل
المثال أنه كان لهؤلاء الملوك والسلاطين أماكن خاصة يؤمنون بضرورة تقديم
الأضاحي البشرية لها مثل الغابات والصخور الكبيرة والبحر. معتقدين أن هذه
العادات هي مصدر قوتهم ، لا ينبغي التخلي عنها وإلا ضعفت شوكتهم وقلت
أرزاقهم. كما كانوا يؤمنون كذلك بأن الحكم السياسي هو استمرار لإدارة
الأسلاف التي يجسدها الملك الذي يستمد قوته من فرض إرادته على الناس من
خلال ادعائه بوجود اتصال روحاني مع هؤلاء الأسلاف : الأمر الذي يبرر حكمه
المطلق الذي لا مجال للخروج عنه.
ورغم أن الإسلام دخل
هذه المنطقة منذ مئات السنين ، إلا أنه لم يكن يتجاوز حدود الدعاية
للسلاطين وتبرير تصرفاتهم من خلال وعاظهم والسحرة والمشعوذين ، وإن كانت
هناك بعض الممارسات الدينية كالعبادات وقراءة القرآن الكريم وتقبل العطاءات
باعتبارها وسيلة لبلوغ الحوائج ، ولعل بعض المسلمين كانوا يجدون في بضع
الطرق الصوفية ملاذاً مشوهاً للتدين.
مرحلة الجهاد القولي:
في
مثل هذه الأوضاع الدينية والسياسية ، بدأ الشيخ ابن فوديو دعوته ، حيث أخذ
على عاتقه مهمة تحرير شعبه من سيادة الأفكار الجاهلية المتخلفة ، ومن
سيطرة السلاطين الجبابرة : الأمر الذي أفضى إلى إقامة دولة إسلامية استمرت
أكثر من مائة سنة في تلك البلاد البعيدة عن مركز الدولة الإسلامية دون أي
تدخل خارجي.
لقد بدأ (الشيخ) دعوته بما أسماه في
أدبياته (الجهاد القولي) الذي قام على النصح والإرشاد ورفع المستوى
التعليمي ومستوى الوعي الاجتماعي العام لدى الناس ، حيث أرسل رسائل إلى كل
فئات المجتمع يدعوها إلى الله ، موضحاً أهمية الإسلام في إحياء الأمة
وخلاصها من مشاكلها الواقعية التي تعيشها.
وقد ركز في أسلوب دعوته خلال هذه المرحلة على استخدام عنصرين مهمين :
أولهما
التركيز على موضوع المرأة في النموذج الإسلامي ، والفرق بينهما وبين
المرأة في النموذج الجاهلي المتخلف ، مستفيداً من مساهمة الكثير من السيدات
المسلمات في حركة النهضة التي قادها الشيخ ، وهي القضية التي أظهرت تحدياً
كبيراً للأفكار السائدة من خلال دعوة المرأة إلى التحرر من الاستعباد
الحقيقي الذي تعيشه في ظل الوضع السائد.
وثانيهما
اعتماده على استخدام الشعر والموشحات الدينية بالطريقة الشعبية المعروفة في
تلك البلاد والمحببة إلى القلوب ، وفي هذا المجال كان مبدعاً في تأليف
كمية كبيرة من القصائد والموشحات ذات المضمون الأخلاقي والعلمي والإرشادي
باللغات المحلية ، وقد كانت هذه القصائد تنتقل من ألسنة الدعاة إلى ألسنة
العامة. وما زال كثير منها محفوظاً حتى اليوم ، خاصة إذا علمنا أن الثقافة
الإفريقية تنتقل عن طريق الحفظ والرواية لا عن طريق الكتابة والتدوين.
وقد
استمرت هذه المرحلة من عام 1774 حتى 1803 أي حوالي 30 سنة من الدعوة
والبناء السليم لحركة الدعاة والمبلغين والتحدي الأخلاقي والفكري
والاجتماعي للمجتمع القائم ، دون اللجوء إلى أسلوب المواجهة المباشرة ، بل
عرف عنه في تلك المرحلة تشديده على الدعاة بعدم الدخول في صدام مع القوى
المسيطرة وقد ألف في هذه المرحلة الكثير من المؤلفات الهادفة والدراسات
القيمة.
وكان ينتقل بين المدن والقرى بنفسه وانتهت
هذه المرحلة بتأسيس المجموعة الأساسية من الأتباع أو من أسماهم بالطلبة
بهدف نشر الصورة الصحيحة للإسلام وتقديم النموذج الأرقى للدين القويم ،
وفضح علماء السوء الذين كانوا يرون المنكر ولا يغيرونه بأي شكل من أشكال
التغيير المتاحة.
بناء الدولة المسلمة:
وبهذا
المنهج الدعوي السليم آتت دعوة الشيخ الطيبة ثمارها اليانعة ، حيث بدأ
المواطنون يعلنون رفضهم للأوامر التي تتنافى مع تعاليم الإسلام ، خاصة في
أوساط الشباب الذين أدركوا أن الصراعات القائمة في مجتمعهم إنما تعود
أسبابها إلى السرقة والتعدي ونهب المحاصيل أو الثروات الحيوانية ، حتى
الفتيات بدأن يرفضن ما يؤمرن به إذا كان منافياً لأحكام الدين الحنيف ، مما
دفع ملك المنطقة إلى المطالبة بمغادرة (الشيخ) خوفاً من أن يسحب البساط من
تحت قدميه ، غير أن (الشيخ) كان قد اتخذ قراره بالهجرة مع مجموعته كلها ،
وأصدر فتوى في ذلك أذيعت في مختلف الأمصار ، وما إن انتقلت الأخبار إلى
المدن المجاورة ، حتى تجمع المؤمنون من كافة أنحاء البلاد لبناء مجتمع قائم
على الحكم الإسلامي.
استمرت هذه المرحلة إلى عام 1808
وتوطدت خلالها دعائم الحكم الإسلامي ، حيث وضع نظاماً إدارياً متقدماً
مستمدا من النظم الإسلامية ووحد البلاد تحت راية واحدة وجعل اللغة العربية
لغة الدولة الرسمية ، واستمرت هذه الدولة حوالي مائة سنة حتى دخول
الاستعمار البريطاني إلى تلك المنطقة ، حيث قرر الملك الآنف الذكر أن يجهز
جيشاً لمقاتلة المجموعة المؤمنة ، فالتقى الجيشان وانتهت المعركة بنصر جيش
المسلمين ، فكانت هذه المعركة جولة حاسمة انهار على أثرها الكثير من الجيوش
والممالك الصغيرة بالقتال أو الترهيب ، وفي هذه المرحلة التي عرفت بمرحلة
الجهاد المسلح ، تمت الخطوة الحاسمة التي لم يكن بالإمكان أن يستقيم الوضع
دونها ألا وهي مبايعة الشيخ قائداً وإماماً على سنة الله ورسوله.
خصائص حركة ابن فوديو:
لقد
نجح الشيخ في تغيير مجتمعه وإقامة شرع الله فيه على طريقة الشيخ الولي
المعروفة عند الطرق الصوفية ، ولكنه أبدع في تحويلها إلى حركة إيجابية
قادرة على استنهاض الطاقات الكامنة داخل الأمة عبر إحياء روح الجهاد
والشهادة في سبيل الله ، بعد أن كانت تعرف بعزوفها عن التدخل المباشر في
قضايا الحكم والدولة.
وقد اعتمد في حركته على مبدأ
الولاية المكتسبة بالعلم والخبرة ، والمعززة بالمبايعة من قبل العلماء
ووجوه الأمة ، والمرتكزة على اطمئنان الجمهور المتواصل لقيادته بشكل دائم.
ولم
ينتحل الشيخ أية دعوة خاصة على الطريقة الفاطمية أو المهدوية ، بل استمر
في الدعوة إلى المنابع الأصيلة للفكر الإسلامي بل أنه خاض مجموعة من
النقاشات مع أنصاره خاصة يدعوهم فيها إلى عدم نسبة الصفة المهدية إليه وإلى
حركته فقد كانت حركته تعبيراً عن تطور الظروف المحلية التي استشعرت
إمكانية النهوض والتطور نتيجة احتكاكها وتعرفها على الدعوة الإسلامية
بصورتها الصحيحة، وبالتالي لم يعرف عنها الانتماء إلى أي من الاتجاهات التي
كان يضج بها المجتمع الإسلامي ، كما أنها لم تكن كمثيلاتها من الحركات
الإفريقية حيث كان التمسك فيها بالإسلام تعبيراً عن درة فعل على الغزو
الاستعماري الأوروبي الذي جاء ليؤسس نموذجاً حضارياً غريباً ومنافياً
للطبيعة الإفريقية التقليدية.
وجوده عديدة وشخصية واحدة :
كانت
شخصية الشيخ متعددة المواهب ، وهو ما يظهر بسهولة حين نرى تراثه العلمي
الضخم الذي يقدم مباحث فقهية معقدة يتناول فيها الأبحاث بشكل اجتهادي عميق
ينم عن شخصية فقيه فذ وعالم فريد وعارف رباني لا ينشد إلا هداية المجتمع
إلى شاطئ الأمان ، وقد ترك (الشيخ عثمان بن فوديو) أكثر من 150 عملاً
فكرياً وفقهياً ، معظمها حتى الآن بحاجة إلى تحقيق وطباعة وترجمة تسمح
بالاستفادة منها والتعرف عليها .
إضافة إلى هذا ، فإن
الشيخ كان رجل ميدان وحركة وتخطيط استراتيجي سليم ، تنقل في كل مكان من أجل
نشر لدعوة ، وهيأ تلاميذه كهيئة أركان قادرة على الحوار والنقاش والدعوة
النظرية ، في الوقت الذي كانت قادرة فيه على الانتقال للهجرة والجهاد
والمقارعة ، بما في ذلك إدارة اللعبة السياسية وتهيئة الجيوش والتخطيط
للمعارك ، ثم النزول في صفوفها الأمامية.
كما اتصف
(الشيخ) بصفات شخصية قيادية وخلقية فذة ، فقد كان شديد التواضع أمام بسطاء
الناس وخاصة أمام أساتذته ومعلميه ، وقد وصفه العالم المؤرخ النيجيري (محمد
بلو) بقوله : ( إنه كان خطيباً بليغاً ، وشاعراً فصيحاً فاضلاً ، حسن
الخلق ، جميل العشرة ، كريم الصحبة ، كثير الحياد ، متواضعاً ، يرى نفسه
كأقل الحشرات ، وقافاً عند حدود الشريعة إلفا مألوفا ، حتى كان أحب الناس
إلى أنفسهم ، يتزاحمون عليه مع طلاقة وحسن خلق وبشاشة).
توفي
(رحمه الله) عام 1817 تقريباً ، لكنه خلف ذريته الكريمة التي أنجبت الكثير
من الرموز الكبيرة في عطائها ، وترك وراءه أثاراً فكرية واسعة ستشكل الزاد
الضروري لأية حركة نهوضية حديثة أو مستقبلية.