الحمد
لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد
وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنّا معهم
بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين .
أما بعد :
فيا
أيها الإخوة الكرام سلام الله عليكم ورحمته وبركاته .. وموضوعنا بعنوان : "
في صحبة الإمام أحمد " ، وهي صحبة كريمه مع إمام جليل ؛ وغرض الصحبة أن
ننظر في حاله ، وأن نستمع إلى أقواله ، وأن نقتبس من أفعاله، غير أنا جزماً
لا نزعم أنّا سنحيط بسيرته ، ولا نجمع جميع دروسه ومواقفه وعبره وأقواله !
وإن المدّعي لذلك كمن يدعي قدرته على أن يجمع ماء البحر في قارورة ، فلو
إدعى ذلك فلن يحظى الا بقدر ملء هذه القاروره من ماء البحر .. وحسبنا أن
نغترف من بحر علمه وفضله وجوده وكرمه وجميع خلاله الحميدة ؛ فإن في ذلك ما
ينفع ويهدي بإذن الله عز وجل في زمن قلّ فيه الثقات ، وصعد فيه النكرات ،
واختلطت فيه الأولويات ، وقلّ من الناس من عاد يميز بين الغث والسمين ، ومن
يفقه فقه أولئك الأئمة رحمة الله عليهم ورضوان الله عنهم ، وكما قال
القائل :
من أين أبدأ قولي أيها الـــــبطل وأنت أبعد مما تطلب الـــــجمل
كل القوافي التي استنفرتها وقفت مبهوره وبدا في وجهها الوحل
ماذا نقول وصرح العلم ســـــامقة أركانه وبناء المجد مــــــــكتمل
ماذا تقول قوافي الشعر عن رجل كل يقول له هذا هو الــــــــرجل
ولذلك
حسبنا وقفات من مواقف وسير الإمام الجليل - رضوان الله عليه - وسنمضي في
صحبة متنوعة، غرضنا منها أن نرى التمايز والبون الشاسع بين ما كانوا عليه
وما صرنا إليه، علّ ذلك يقوى العزم على اقتفاء آثار السلف ، وأن نفقه فقههم
الإيماني وأن نسلك سلوكهم القرآني .
الجولة الأولى : هذا صبيٌ يتورع
فنمضي
في جولة مع الصبي الورع ، إذ كان - رحمة الله عليه - صفحة بيضاء مشرقة كتب
الله له أن يكون على حظ وافر من النجابة والذكاء ومن العلم والفطنة ومن
الصفاء والطهارة منذ نعومة أظفاره، فهذه الروايات في ترجمته تذكر أنه قد
كان في الكتّاب كما يروي أبو عفيف أحد أقرانه يقول : " كان معنا في الكتّاب
وهو غليم نعرف ظله" .
وكانت
الناس تأتيهم الكتابات والمراسلات وليسوا كلهم يعرفون الكتابة ، فكانت
النساء ربما أرسلوا إلى المعلم يقولون له إبعث لنا أحمد بن حنبل حتى يكتب
لنا ، فكان يبعث لهم بأحمد بن حنبل ، وكان يجيء اليهم مطأطىء الرأس - أي من
حياءه وغض بصره مع كونه صبياً صغيراً - فيكتب جواب كتبهم فربما أملوا عليه
الشيء من المنكر فلا يكتبه لهم، فهذا وهو صغير يأبى أن يكتب ما فيه منكر .
وكان إبراهيم بن شماس يقول : " كنت أعرف أحمد بن حنبل وهو غلام صغير وهو
يحي الليل منذ نعومة أظفاره" .
ومن
القصص المؤثرة والدالة على حسن سمته ، وعظيم رعاية الله له سبحانه وتعالى
أنه كما قال داود البسطامي قال : " أبطأت عليّ أخبار بغداد فوجهت إلى عم
أبي عبد الله أحمد بن حنبل بعثت إليه فقلت : لم تصل إلينا الأخبار اليوم ،
وكنت أريد أن أحررها وأوصلها الى الخليفة، فقال لي : قد بعثت بها مع ابن
أخي أحمد ثم بحث عن أحمد وجاء به، وقال له : أليس قد بعثت معك الأخبار، قال
: نعم، قال : فلأي شيء لم توصلها ؟ قال : أنا كنت أرفع هذه الأخبار قد
رميت بها في الماء ؛ لأنه أنكر ما فيها من الأخبار وإن فيها شيئاً من عدم
الصدق أو الظلم، فقال : هل أنا أسعى بمثل هذا المنكر وأرفع مثل تلك الأخبار
ـ ولم ينتظر مشاورة ولا مراجعة بل قذف بها في الماء ، وهذا وهو في سن
الصغر يتورع ـ قال ابن بسطام : " هذا غلام يتورع فكيف نحن؟ " .
فهذه
تدلنا على عظيم أثر التربية في الصغر ، مع أننا نعلم أن الإمام أحمد بن
حنبل ولد في بغداد سنة 164 هـ، ومات والده وهو صغير السن ابن ثلاث سنوات ،
لكنه تربى تربية إيمانية صبغه بهذا النهج القويم منذ صغره، وكما ذكر أبو
بكر بن الأثرم قال : أخبرني من كان يطلب الحديث مع أحمد بن حنبل قال : ما
زال أبو عبد الله بائناً من أصحابه منذ صغره وهو متميز .
وهذه
الوقفة تدلنا على ما للتربية من الصغر من أثر ومن إستقرار ، وإذا ربي
الصغير على هذه المعاني الإيمانية ؛ فإنها تصبح ملكة ذاتية وطبيعية نفسية
وسلوكاً دائماً لا يخشى عليه باذن الله أن يتغير لانه كما قيل : " العلم في
الصغر كالنقش على الحجر " ، " ومن شبّ على شيء شاب عليه " .
فلذلك
رضاع الصغير فيه بداية التربية لأن الإسلام جعل هذا الأمر له ومضات حتى
يبين أثر إستقرار الكلمات والأفعال والصور في ذهن الصغير وإن لم يكن عاقلاً
مدركاً فإن من السنة كما هو معلوم عندما يستهل الوليد صارخاً أن يؤذن في
أذنه وأن يقام في أذنه الأخرى حتى يكون أول ما يسمع من كلام هذه الدنيا
شهادة التوحيد والدعوة للصلاة والفلاح ، ثم يحنك ثم تكون هناك من الأمور
والدلائل في التربية ما يدل على أثرها وإن لم يكن الصغير يعقل معناها، كأن
لا يكذب عليه ولو كذبة كما يقولون صغيرة أو بيضاء أو نحو ذلك .
الجولة الثانية : طلب العلم
وقد
بدأ يطلب العلم فكان له سمت فريد وصفة عجيبة في كمال التوقير لأهل العلم
من مشايخه ومن ذلك ما رواه عمرو الناقد قال : كنا عند وكيع وجاء الإمام
أحمد بن حنبل فجعل وكيع يصف من تواضعه ويثني عليه، ويكرمه إكراماًَ عجيباً
لما له من منزلة ونجابة كان يعرفها الناس فيه وهو صغير، قال : فقلنا له يا
أبا عبد الله إن الشيخ يكرمك فمالك لا تتكلم ؟! قال :وإن كان يكرمني فينبغي
أن أجلّه .
فجعل هذا الإكرام عليه من الحياء ما ألجم لسانه ؛ حتى يجل شيخه ولا يجاريه ، فيصبح مثله في المنزلة وإن كان قد أفاض في مدحه وثنائه.
وقد
قال قتيبه بن سعيد وهو من شيوخه : قدمت الى بغداد وما كانت لي من همة إلا
أن أرى أحمد بن حنبل ، فإذا هو قد جاءني مع يحيى بن معين فتذاكرنا وقام
أحمد بن حنبل وجلس بين يدي، فقلت : يا أبا عبد الله اجلس مكانك فقال : لا
تشتغل بي إنما أريد أن آخذ العلم على وجهه .
بعد اللقاء والسلام جلس بين يديه جلسة الطالب مع أستاذه وكان قتيبة
يجله فقال : مكانك يا أبا عبد الله قال : لا تشتغل بي إني أريد أنأخذ العلم
على وجهه ..، وبعضنا في هذه الأزمان التي قل فيها مراعاة الأدب إذا أثنى
عليه أستاذه فاعطاه كلمة رد عليه بكلمة، فإذا وضع يده على ظهره مكرماً أو
مبجلاً ربما فعل مثل فعل شيخه أو أستاذه، مما يدل على أن قضية الأدب
والتوقير ليست على الصورة المطلوبة وهذه دروس نقتبسها من الإمام رحمة الله
عليه .
وقال
إسحاق الشهيد : كنت أرى يحيى القطان يصلي العصر ثم يستند الى منارة المسجد
فيقف بين يديه علي بن المديني - إمام أهل النقد والجرح والتعديل وشيخ
الإمام البخاري - فيقف بين يديه علي بن المديني والشاذكوني وعمرو بن علي
وأحمد بن حنبل ويحي بن معين وغيرهم يستمعون الحديث وهم قيام على أرجلهم حتى
تحين صلاة المغرب لا يقول لأحد منهم اجلس ولا يجلسون هيبة له .
لم
يذكروا الجلوس ولا يأمرهم به ولا يجلسون هيبة له ولا يطلبون منه ذلك، قد
يقول قائل : في ذلك مبالغة، وأقول : لا يجتمع أمثال هؤلاء على مثل هذه
المبالغات تنطعاً أو تكلفاً ، ولكنها سجية التوقير غرست في نفوسهم ،
والتعظيم للعلم ولحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال أحمد بن
سعيد الرازي : " ما رأيت أسود الرأس أحفظ لحديث رسول الله صلى الله عليه
وسلم ولا أعلم من فقهه ومعانيه من أبي عبد الله أحمد بن حنبل " .
وتأمل
هنا قال : ما رأيت أحفظ ولا أعلم بفقهه ومعانيه، الخلاصة الجوهرية العلم
السلوكي التربية الإيمانية قد إقتبسها الإمام أحمد مع الحفظ رحمة الله عليه
.
الجولة الثالثة : مع الصديق الودود
ثم نمضي مع الصديق الودود كيف كانت علاقته وحسن تعامله ولين جانبه مع
أصدقائه ولطافته في المعاملة ؛ فإن بعض الناس يظن أن العلم والوقار يقتضي
التجهم ، وعبوس الوجه ، وتقطيب الجبين أو نحو ذلك، فلذلك يذكر أبو عبيدة
القاسم بن سلام - وهو من أئمة أهل العلم والإسلام - يقول وهذه زيارة بين
عالمين جليلين ننظر كيف كان المستقبِل والمستقبَل:" زرت أحمد بن حنبل
فأجلسني في صدر داره وجلس دوني، قال فقلت : يا أبا عبد الله أليس يقال صاحب
البيت أحق بصدر بيته، فقال ـ على البديهية مباشرة ـ : نعم يقعد ويقعد فيه
من يريد إكراماً وإجلالاً واستضافة، يقول أبو عبيدة : فقلت في نفسي خذ إليك
يا أبا عبيد هذه فائدة ـ إذاً كان يأتي للزيارة لا لمجرد المتعة والفكاهة
والكلام والمزاح وإنما كان يأتي بغرض المذاكرة والإنتفاع فقال في نفسه خذ
إليك فائدة ـ قال ثم قلت : يا أبا عبد الله لو كنت آتيك على نحو ما تستحق
لأتيتك كل يوم ـ يقول : لو أنني أزورك على قدر مرتبتك وحقك لكان واجباً علي
أن أزورك كل يوم كأنه يعتذر من قلة زيارته على عظيم قدره ـ فقال له أيضاً
: لا تقل هذا إن لي إخواناً لا ألقاهم الا في كل سنة مرة وأنا أثق بمودتهم
ممن ألقى كل يوم ـ المهم أن تعرف صدق المحبة وصدق التعامل وحسنه وليس
الفرض؟ هو كثرة الزيارة ودوامها فان ذلك ليس بالضرورة هو الدال على هذا
.فيقول هناك من لا يزورني ولكني واثق بمحبتهم وصدق إخلاصهم لي لما أعرف من
حاله وطبيعة معاملته ـ فقال أبو عبيدة قلت في نفسي : خذ أخرى يا أبا عبيدة
فهذه الثانية، قال فلما أردت القيام قام معي فقلت : لا تفعل يا أبا عبد
الله ـ كما يفعل بعض الناس الآن يأتي الإنسان يذهب يقول في أمان الله
يستأذن يقول له في أمان الله كأنه يطرده من بيته، فقال له : : من تمام
زيارة الزائر أن تمشي معه الى باب الدار وتأخذ بركابه، قال قلت يا أبا عبيد
هذه ثالثة " .
فاستفاد هذه الثلاث في التعامل مع الزائر والتودد للإنسان بينه وبين
إخوانه وبين من يتعاملون معه وهذه من أسباب توطيد عرى المحبة والمودة بين
القلوب .
الجولة الرابعة : مع الخائف الوجل
يقول عبد الله سمعت أبي يقول : " وددت أني نجوت من هذا الأمر كفافاً لا لي ولا عليّ "
هذا
الذي كان طاهر النفس ، نقي النشأة ، حافظاً لحديث رسول الله عليه الصلاة
والسلام كان يعلم ويوقن عظمة المهمة والواجب الملقى على عاتقه ، ويعلم قصور
العبد وقلة حيلته ويعلم عظمة الرب وعدم القدرة على إيفاء حقه سبحانه
وتعالى، فيقول :" وددت لو أني نجوت كفافاً لا لي ولا علي "
وكان إذا دعا له رجل يقول : " الأعمال بخواتيمها " .
وكثيراً ما كان يُسمع منه قول :" اللهم سلم سلم " .
لأن
القلوب الخائفة الوجلة مهما عملت ؛ فإنها تبقى على وجل من عدم القبول أو
على وجل من أن تكون الأعمال دون الواجبات المطلوبة ، ودون المنزلة المرجوة ،
ولذلك كما قال الله عز وجل : { والذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة أنهم
الى ربهم راجعون } .
لما
سألت عائشة رضي الله عنها قالت :يا رسول الله الرجل يصلي ويصوم ويتصدق
الرجل يشرب الخمر ويزني ، ثم يخاف ؟! قال : ( لا يابنة الصديق ! ولكنه
الرجل يصلي ويصوم ويتصدق ويخشى أن لا يقبل منه ).
إذاً
هذا حال أهل الإيمان كما ذكر الحسن البصري رحمة الله عليه عندما قال : "
لـقـد لقيت أقواماً هم أخوف منكم أن لا تقبل حسناتهم من خوفكم أن تحاسبوا
على سيئاتكم " .
فهم في خوف عظيم أكثر من خوفنا من سيئاتنا ، وخوفهم أعظم ولكن ليس من
السيئات ولكنه من خوف عدم قبول الحسنات، وهذا لا يكون الا مع عظمة الإيمان
وإستحضار عظمة الله - عز وجل - وفهم الحق الواجب له سبحانه وتعالى .
ولذلك
لما سئل الإمام أحمد : كيف أصبحت ؟ قال مقالة عجيبة فريدة تدل على عظيم ما
كان يفقه من دين الله وما يحمل من أمر الله . قال : " كيف أصبح من ربه
يطالبه بأداء الفرائض ، ورسوله يطالبه بأداء السنة ، والملكان يطالبانه
بتصحيح العمل ، ونفسه تطالبه بهداها ، وإبليس يطالبه بالفحشاء ، وملك الموت
يطالبه بقبض روحه ، وعياله يطالبونه بالنفقه ؟ " .
كلها
أمور يحتاج الإنسان فيها إلى مجاهدة وإستقامة على أمر الله - عز وجل -
إتباعا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تحرياً للإخلاص وصدق التوجه
لله عز وجل، براءة من شهوات النفس ومجاهدة لها ، ومحاربة لإغواء الشيطان
وتزيينه ، وفوق ذلك كله انتظار الموت على وجل وخوف، ولذلك كان - رحمة الله
عليه - مع ما كان له من قدم سابقة في العلم والعمل كان دائماً يستحضرعظمه
الله عز وجل .
الجولة الخامسة : مع الرجل الوقور
فقد كان - رحمة الله عليه - مع خوفه لله عز وجل ، ومع حسن تعامله مع
الناس وقوراً يهابه الناس لما له من الوقار بالعلم والصلاح والتقوى لله عزو
جل، حتى إن شيوخه وأهل العلم والتقوى وأهل الإمامة في الدين كانوا يراعون
الإمام أحمد ويهابونه ويوقرونه، فهذا يزيد بن هارون - وهو من أعظم شيوخه
ومن كبار أهل العلم - قال أحد تلاميذه :
كنا
في مجلس يزيد بن هارون فمزح يزيد مع مستمليه الذي يمليه الحديث ، فتنحنح
أحمد بن حنبل فضرب يزيد على خده كالمتأسف ، وقال : ألا أعلمتموني أن أحمد
ها هنا حتى لا أمزح .
كان
الموقف في مقام مجلس الحديث تبسّط يسير، لكن الإمام أحمد كان أشد وأعظم
توقيراً لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وللعلم وأكثر هيبة في قلوب
الناس، حتى إن الشيخ قال : لو أعلمتموني حتى لا أمزح بحضوره .
وعن
أحمد بن شيبان قال : " ما رأيت يزيد بن هارون لأحد أشد تعظيماً منه لأحمد
بن حنبل ، ولا رأيته لأحدٍ أشد إكراماً له إكرامه لأحمد بن حنبل " ،وكان
يوقر الإمام أحمد ولا يمازحه أبداً .
وقال
أحدهم :" كنا عند إسماعيل بن علية فتكلم إنسان فضحك بعضنا ، وثمّ أحمد بن
حنبل - أي جالس معهم - فأتينا إسماعيل بعد ذلك فوجدناه غضبان فقال :
أتضحكون وعندي أحمد بن حنبل !! " ، من شدة هيبته ووقاره رحمة الله عليه .
وهناك
قصة لطيفة تدل على هذا المعنى ، وتدل على سمت الإمام - رحمة الله عليه -
يقول أحمد بن منصور يقول : صحبت الإمام أحمد ويحيى بن معين ، وكنت خادماً
لهما في طلب الحديث عن عبد الرزاق ، ولما رجعا ذهبا الى أبي نعيم ، فقال
ابن معين : نريد ان نختبر أبا نعيم وحفظه، فقال له الإمام أحمد : لا تفعل ؛
فإنه حافظ ثقة ، قال : لا بد لي من ذلك ، فعمد إلى ثلاثين حديثاً وجعل في
كل عشرة منها حديث ليس من حديث أبي نعيم ، ثم ذهب الثلاثة إليه فخرج إليهم ،
وجلس معهم على دكة طين قريباً من بيته ، فجعل يقرأ عليه الأول أحاديثه ،
فلما جاء إلى الحديث المغلوط رفسه برجله أو قال : هذا ليس من حديثي ! ثم
الثاني فلما جاء الى الحديث المغلوط قال : ليس من حديثي ! ثم الثالث ذكر
العشرة أحاديث، فقال : هذا ليس من حديثي ! ثم التفت بعد ذلك إلى الثلاثة،
وقال موجهاً حديثه إلى الإمام أحمد : أما هذا - أي الإمام أحمد - فأورع من
أن يفعل هذا، و أما هذا - يعني أحمد بن منصور - فأقل من أن يفعل هذا - يعني
لا يعرف مثل هذه الأمور - وما فعلها غيرك يا فاعل ، ثم رفسة حتى أسقطه من
الدكة، قال الامام أحمد لما انصرفوا : ألم أمنعك من الرجل ، وأقل لك إنه
ثبت، قال : والله لرفسته أحب الي من سفري . وهذا من لطائف المحدثين .
عندما
تحقق للإمام أحمد هذ الجوانب كلها ورع في الصبا وأدب في العلم ووقار في
الرجوله وحسن تعامل مع الأصدقاء والقرناء صار حينئذ إماماً وقدوة فنمضي معه
وهو قدوة الأئمة أو هو الإمام القمة .
الجولة السادسة : قدوة الأئمة إمام القمة
فنرى
أن المقتدى به من الأئمة يقتدون بالإمام أحمد وان المعظَّمين لعلمهم
وفضلهم إذا هم يعظمون الإمام أحمد - رحمة الله عليه - فهذا علي بن عبد الله
بن جعفر يقول : " أعرف أبا عبد الله منذ خمسين سنة يزداد خيراً في كل عام "
.
في
كل عام وهو يزداد خمسون سنة وهو في زيادة، لو تصور الإنسان أنه خلال خمسين
يوم فقط يزيد في كل يوم عمل من أعمال الخير، لا شك أنه سيأتي بعد هذه
الأيام الخمسين ويرى تحولاً كبيراً في حياته، لو قلنا أنه كان مثلا يقرأ
صفحة في اليوم من كتاب الله عز وجل فإذا بلغ الخمسين يوماً سيكون يقرأ في
اليوم خمسين صفحة، وسيرى أنه قد بلغ مبلغاً عظيماً وهذا يزداد في كل يوم
عبر خمسين سنة خيراً مطلقاً من علم وعبادة وزهد وتقوى وورع وحفظ وجهاد
ومصابرة، فهذا لا شك أن هذا سيجعله من المقدمين بين أهل العلم والمقتدى به .
ويحيى
بن معاذ يقول : " أراد الناس أن أكون مثل أحمد بن حنبل ثم يقول لا والله
لا أكون مثل أحمد أبداً " ، لا يعني أنه لا يريد ، ولكنه يقول أنه لا يطيق ؛
لأن الإمام أحمد قد بلغ منزلة عظيمة في كل باب من أبواب الخير ، حتى
انقطعت دون الإقتداء به والإقتباس بفعله الرقاب .
وبشر
بن الحارث ممن كان من قرناء الإمام أحمد ذكر عنه كثير من الأقوال التي
تبين تبجيله وتوقيره للإمام أحمد وإبراز إمامته على الأئمة، فها هو يقول
عندما ابتلي الإمام أحمد بالمحنة وثبت فيها يقول بشر :" إن هذا الرجل قام
اليوم بأمر عجز عنه الخلق أرجو أن يكون ممن نفعه الله بالعلم " .
وقال أيضاً :" أحمد إمام من أئمة المسلمين " .
ثم
لما جاءوا وقالوا له : أنت تقول بقول أحمد نفلماذا لا تعلن قولك وتقف
موقفه ؟ فقال : " أتريدون أن أقوم مقام الأنبياء ؟! إن أحمد قام مقام
الأنبياء " .
ولما بلغه أن الإمام أحمد ضرب بالسياط ، خاطب ساقه قائلاً : " ما أقبح هذا الساق ألا يكون فيها القيد ! " ، نصرة لهذا الرجل .
وأبو زرعه جمع لنا هذا كله في كلمات وجيزه عندما قال : " ما رأت عيني مثل الإمام أحمد " .
وكان
الإمام البويتي - رحمة الله عليه - وهو من تلامذة الشافعي سجن في المحنة
كتب من سجنه وقال في كتابه :" إن لأرجو أن يجزي الله - عز وجل - أجر كل
ممتنع في هذه المسألة لسيدنا الذي ببغداد يعني الإمام أحمد " ، هو المقدم
السيد المبجل في هذا الأمر فكل من وقف وقفه أو جزء مما فعل الإمام أحمد
فانما كان يقتدى به .
ولذلك
قال بشر في مفاضلة بين الإمام أحمد وسفيان أفاض فيها ثم قال: " أحمد عندنا
أمتحن في السراء والضراء ، وتداولته أربعة خلفاء بعضم بالضراء ، وبعضهم
بالسراء فكان فيها مستعصماً بالله عز وجل " .. تداوله المأمون والمعتصم
والواثق بعضهم بالضرب والحبس ، وبعضهم بإخافة وترهيب ، فما كان في هذه
الحال إلا سليم الدين غير تارك له من أجل ضرب ولا حبس ، ثم أمتحن أيام
المتوكل بالتكريم والتعظيم فبسطت الدنيا عليه ، فما ركن إليها ولا انتقل عن
حاله الأول ، رغبة في الدنيا ولا رغبة في الذكر ، وهذا هو الثبات العظيم
الذي تميز به الإمام أحمد رحمة الله عليه .
ومن
لطائف ما كان يدل على توقير وتعظيم الأئمة له أن حجاجا الشاعر وكان من
المحدثين أيضاً يقول : كنت أكون عند الإمام أحمد فانصرف في الليل أي من
بيته فاذكره في الطريق فأبكي .
فهذا كلام الأئمة في إمام كأنه كان بينهم إمام الأئمة رحمة الله عليه .
الجولة السابعة : مع السلفي الأصيل
ننظر
كيف كان الإمام أحمد حريصاً على أن يكون متبعاً للسلف مع فقه أصيل ومع
متابعة دقيقة، سئل عن الوسواس والخطرات فقال : " ما تكلم فيها الصحابة
والتابعون " .
فكان
يرى ما لم يتكلموا فيه من المسائل ولا يُحتاج إليه في رد شبهة ونحو ذلك ،
فلا يفتح على الناس به، والا كان ذلك نوعاً من عدم الفقه في منهج السلف، إذ
لو كان في مثل هذه المسائل من نفع لذكروه ولذلك كان رحمة الله عليه يحرص
على إتباع السلف، وكذلك كان علمه وفقهه هو السنة وفقهها، لا يخوض في أمر
الا إذا علم أن أصحابه خاضوا فيه ؛ فإن علم بذلك إتبع رأيهم ونفى غيرهم وإن
لم يعلم أن الصحابة خاضوا في ذلك الأمر كف عنه واستعصم متوقفاً حذراً ،
فلا يقف ما ليس له به علم ؛ لأنه يعتقد أن الخروج عن تلك الجادة زيغ عن
منهاج السلف وإلحاد في دين الله عز وجل لأنهم لم يكونوا يتكلفون التعمق في
المسائل خاصة المسائل العقلية التي كثرت في وقت الإمام وضل بها كثير من
الناس، ولذلك لما سئل عن علم الكلام كتب الى السائل قائلا له : " أحسن الله
عاقبتك الذي كنا نسمع منه وأدركنا عليه من أدركنا أنهم كانوا يكرهون
الكلام والجلوس مع أهل الزيغ ، وأما الأمر في التسليم والإنتهاء لما في
كتاب الله لاتعد ذلك ولم تزد عليه ، ولم يزل الناس يكرهون كل محدث من وضع
كتاب أو جلوس مع مبتدع ليردوا عليه بعض ما يلبس عليه في دينه فلذلك إنا
أخذنا من القول ما أحتيج إليه في رد ما شُبِّه عليهم أو لبس عليهم في دينهم
" .
ولذلك
انظروا على عمق الإتباع عندما قال الإمام أحمد يقول عن نفسه : " ما كتبت
حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم الا وقد عملت به " ، ومسنده فيه نحواً
من أربعين ألف حديث .
فإذاً
قد اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إنه ذكر في ترجمته أمور عجيبة
في حرصه علىالمتابعه للمصطفى عليه الصلاة والسلام، فقد احتجم وما به من علة
وأعطى الحجام ديناراً كما كان فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولما أمر
بالاختفاء ذهب إلى بيت بعض أصحابه و مكث به ثلاثة أيام، ثم قال التمس لي
طريقاً يعني أخرج، قال : لا آمن عليك قال : التمس لي وأعطيك فائدة فلما
جاءت الثلاث وخرج قال :" إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اختبأ في غار
حراء ثم خرج فسهل الله أمره " .
وكان
يتبع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويحرص على إقتفاء الأثر، ولذلك قال
عنه بعض أهل العلم : سئل عن ستين ألف مسألة فأجاب عنها كلها ، في كل جواب
يقول : أخبرنا حدثنا ينسب إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام ويروي عن
الصحابة رضوان الله عليهم .
فلم تكن المسألة تعلقاً بأمر دون أمر ، ولا بظاهر دون باطن ولا
باليسير من الأمور دون صعبها ، وإنما كان إمتثالا يشمل كل ما بلغه عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم وكل ما أثر عن الصحابة ثم يقول عنه عبد الملك
الميموني : " ما رأت عيني أفضل من الإمام أحمد بن حنبل .. ما رأيت أحداً من
المحدثين أشد تعظيماً لحرمات الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم إذا صحت
عنده ولا أشد إتباعاً منه رحمة الله تعالى عليه " .
فهذه
جملة تبين لنا كيف كان الإمام أحمد حريصاً على إتباع السلف وقطع ما لم يكن
في عهدهم من المعادلات ولا المسائل التي شققها الناس وفرعوها فخرجوا بها
عن نهج السلف ، ولبّسوا فيها على الناس دينهم وكثر فيها القيل والقال ، ولم
يقفوا عند أثر المصطفى - عليه الصلاة والسلام - وصحبه الكرام، وقد كان
الإمام أحمد تروي عنه في مسائل الفقه أقوال متعددة ؛ لأنه لم يكن - رحمة
الله عليه - يرى أن يخرج عن مجموع النصوص بل كان يرى أنه يغني بموجب هذه
النصوص الواردة وإن كان ليس بينها تعارض ربما قال بقولين في مسألة ليجري
الأثرين أو الحديثين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك كان من فقهه
في سجود السهو - على سبيل المثال - أنه قال يتبع في كل حاله ما كان من فعل،
فما روي في النقص من سجود السهو يتبعه وما روي في الزيادة يتبعه حاله بما
له حذو القذة بالقذة، وهكذا كان رحمة الله عليه إمام أهل السنة في وقته
لحرصه على هذا الإتباع مع هذا الفقه في الدين .
الجولة الثامنة : مع المتواضع المخبت
الذي
كان إماماً للائمة وكان متابعا للسنة كان - رحمه الله - متواضعاً يحب خمول
الذكر ، ويبعد عن ما يحف به الناس ويزيدون فيه، وهذا لا شك أنه من أعظم
مراحل الإيمان والتقوى وهو ألا يفتر الإنسان ، وألا يفتن عندما يوفق إلى
بعض الخير سيما والناس يحفون به ويزفون، فقد كان أحمد - رحمه الله - يحب
الا يتبعه أحد، فقد قال إبنه وربما خرج الى الجمعة فيتبعه بعض الناس فيقف
حتى ينصرفوا عنه ؛ لئلا يتبعه أحد يأخذ ذلك من هدي الصحابة كما ذكر ابن
القيم في الفوائد : أن ابن مسعود خرج فتبعه بعض الناس، فقال : ألكم حاجة ؟
قالوا : لا وإنما نتبعك، قال : " لا تفعلوا فإنه ذلة للتابع وفتنة للمتبرع "
.
هكذا كان أولئك القوم يحرص علي براءة نفوسهم وطهارة قلوبهم والحذر من
الرياء أو من الكبرياء ونحو ذلك ، فهذا ابن معين - رحمة الله عليه - وهو من
أصحاب أحمد والمقربين إليه يقول : "ما رأيت أحمد بن حنبل صحبناه خمسين
سنة ما افتحر علينا بشيء مما كان عليه من الخير والصلاح " .
هذا الصلاح وهذا الخير ما ذكر يوماً أنه أعلم منهم أو عنده فقه أكثر
منهم ، أو أن عنده عبادة خيراً منهم أو أنه عنده أصل أو شرف أو كذا، مطلقاً
مما يدل على أنه لم يكن يرى لنفسه شيئاً بل كان يرى منزلته بين يدي الله
سبحانه وتعالى فلا يجد نفسه شيئاً مذكوراً بين الصحابة يرى نفسه ويقيس نفسه
إليهم كأنه قزم صغير إلى عمالقة عظام رضي الله عنهم .
ومن
ذلك أنه كان أحمد بن محمد الشيباني من قبائل العرب الصحيحة ، فكان يسأله
بعض الناس كما قال عارض بن الفضل يقول : وكان يتردد عليّ ، فقلت مرة :يا
أبا عبد الله بلغني أنك من العرب فمن أي العرب أنت ؟ وكان الناس يفتخرون
بهذه الأصول وعلى أقل تقدير في تلك الأعصر التي كثر فيها العجم والفرس
وكذا، فقال الإمام أحمد :" يا أبا النعمان نحن قوم مساكين "
قال فجعل يتردد عليّ وكل مرة أسأله يقول : " يا أبا النعمان نحن قوم مساكن " ، وقيل له مرة:
"
جزاك الله عن الإسلام خيراً " ـ وكم نسمع هذه الكلمة ثم هم لا يبلغون عشر
معشار الإمام أحمد وإن كانوا على خير وفضل وصلاح ـ فقال له : " بل جزى الله
الإسلام عني خيراً .. من أنا ؟ وما أنا ؟ " .
من هذا الذي يفضُل حتى يكون له فضل على الإسلام بل جزى الله الإسلام
عني خيراً الإسلام هو الذي بصرَّني بالنهج وهو الذي رزقني الله به الإيمان
وهو الذي عرفت به الحلال والحرام وهو الذي شُرِّفت به في الدنيا وأنجو به
في الآخرة بإذن الله عز وجل، وهذا يدلنا على أن النفس متى تطهرت من هذه
الأوضار والأمراض التي تفتك بالنفوس ، نسأل الله سبحانه وتعالى السلامة .
وقيل
له مرة : " ما أكثر الداعين لك !" ، فاغروقت عيناه بالدمع وقال : " أخشى
أن يكون إستدراجاً " ثم قال : " اللهم إني أسألك أن تجعلني خيراً مما يظنون
، وأن تغفر لي ما لا يعلمون " ، على ما روي من قول الصديق رضي الله
عنه ، وهكذا كان رحمة الله عليه.
ولذلك
كان الناس يسمعون عن الإمام أحمد بن حنبل ، ويسمعون عن تعظيمه وتوقيره
وعلمه وصلاحه وموقفه الذي كان شائعاً في الأمة كلها ، حتى إن بعضهم كانوا
يظنون أنه غير البشر ، حتى أن الذهبي ذكر أن رجلاً جاء من خراسان ورأى
الإمام أحمد، فقال : الحمد لله الذي رأيته هكذا ؟ فقال له الإمام أحمد :
أقعد أي شيء ذا ومن أنا ؟
ولذلك كان موصوفاً بهذه الهيبة مع كونه على هذا التواضع إذا رمى بصره في مجلس هدأت ضوضاءه واستقر الناس واعتدلوا ..
يسير في هيبه الإيمان تحرسه رعاية الله لا جند ولا خول
وليس في كفه سيف يذل به من لا يطيع ولا في ثوبه بلل
ولكـنها طاعه الرحمن عز بها عزاً له في حياة المصطفى مثل
كأنما هو الهامات خاضعـة شد إليها جبال التهم ترتحل
و لذلك كان ابن حنبل رحمة الله عليه على هذه المنزلة .
الجولة التاسعة : مع المنصف العادل
فقد كان ينصف الناس ويعدل معهم ويعذرهم ويحسن بهم الظن، وفي ذلك
مقالات فريدة جديرة بأن تكون موضع اعتبار وأذكار، فهذا الإمام أحمد لما
جاءت المحنة كان معه جمع حُملوا معه وكان معه محمد بن نوح وعبد الله
القواريري وسجادة، فبعضهم لما حبس أجاب في أول يوم وبعضهم في اليوم الثاني ،
وأما محمد بن نوح لما حمل مع الإمام أحمد مات في الطريق وصلى عليه الإمام
أحمد، وكان الإمام أحمد يُسأل عمن كانوا معه فأجاب : فالتمسوا لأنفسهم
تأولاً يعذرون به عند الله إن شاء الله وهم أهل خير وعلم .
فيقول الراوي عنه سمعت الإمام أحمد وقد ذكر الذين حملوا إلى المأمون
وأجابوا لما طلب منهم من خلق القرآن توريه أو تاولا قال فذكرهم أبو عبد
الله بعد ذلك وقال : هؤلاء لو كانوا صبروا وأقاموا لله ، لكان الأمر قد
انقطع ، وحذّرهم المأمون لما أجابوا وهم عين البلد ولم يجترأ على غيرهم .
هذا كان في تقرير مسألة من حيث الجملة فيما كان ينبغي أن يكون في
مواجهة هذه الفتنة يقول هؤلاء كانوا أعيان الناس لو أنهم ثبتوا ما اجترأ
على غيرهم ولتراجع ؛ لأن المامون أراد أن يعلن المحنة في العام الثاني عشر
بعد المئة الثانية قال : " كنت أريد أن أعلن بخلق القرآن لولا خوفي من يزيد
بن هارون - شيخ الإمام أحمد - فقالوا له : ومن يزيد بن هارون ؟ قال أخشى
أن أقول فيقول بغير قولي فيبطل " .
فيحسب حساب العلماء والأئمة التي كانت كلمتهم هي المسموعة كما كان
موقف الإمام أحمد، لكن لما جاء العام الثامن عشر بعد المائتين أعلن ودعا
وامتحن الناس، فكان الإمام أحمد يقول لو أنهم ثبتوا في ذلك الموقف لكان
كذلك، لكن عن أحوالهم بأعيانهم كان أبو عبد الله رحمة الله عليه يعذر عبد
الله القواريري وسجادة ويقول :" قد أعذرا وجبا ، فقد قال الله عز وجل :{
إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } ،ثم قال : القيد كره والحبس كره ألتمس
لهم العذر .
لم يقل أولئك قوم ضعفوا ولا جبنوا ولا انتقدهم ولا أقدح فيهم ولا
أزدريهم ليعلو بنفسه عليهم وإنما التمس لهم العذر وأثنى عليهم بما لهم
وأحسن الظن بهم، ولذلك هذا الموقف درس عظيم فيما ينبغي أن يكون من حسن الظن
والتماس العذر وعدم التشنيع، وإن كان ثمة خطأ فينبغي أن يكون النصح
بالحسنى أو بالسر حتى يقوِّم الإنسان أخاه بما يحصل به النفع دون الضرر
والخير دون الشر .
وإن
كثيراً من الناس ربما تغلبهم نفوسهم فيلتمسون علوها وشرفها بنقد الآخرين
وجرحهم، وعندما تكون ثمة مواقف أو مقالات أو نحو ذلك ترى الناس يكثرون
القول واللغط، فيقولون : فلان كان جريئاً وفلان كان جباناً خائفاً .
وهذا التقويم ليس بالضرورة أن يكون صحيحاً فان من اجترأ إجترأ حمية
لدين الله عز وجل ، وإنما سكت من سكت ربما فطنة أو حكمة أو مداراة أو
مراعاة للمصلحة .
وهذا
الإمام أحمد يثني في أمر أحمد بن نصر الخزاعي الذي رأى رأياً غيره حتى
قُتل فأثنى عليه الإمام أحمد بن حنبل، وغيره تأول فالتمس له العذر، فكلٌ
على خير ما دامت المقاصد بإذن الله عز وجل صحيحة، ولم يبلغ الناس خطأً
متعمداً فإن هذا ينبغي أن لا يشاع عنه قالة السوء، ولذلك أحمد بن حفص
السعدي يقول سمعت الإمام أحمد يقول : " لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق
وإن كان يخالفنا في أشياء ؛ فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضاً " ،
ابتداء هذا القول بالثناء على إسحاق وإن كان يخالفه في المسائل أو بمخالفة
في الإجتهادات، لكن هذا الخلاف لم يمنعه من أن ينصفة ، ولم يكن هذا الخلاف
مؤدياً الى الإختلاف ولا إلى نفرة القلوب بل كان من فقه الإمام أحمد
وإيمانه وورعه وتقواه أن أثنى عليه وقال : " ما عبر الجسر إلى خراسان مثل
إسحاق - يعني أنه من أفضل من جاء إلى تلك البلاد - وإن كان يخالفنا في
أشياء ؛ فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضا " .
وأبلغ
من هذا وأكثر منه ما رواه عبدالله بن محمد الوراق - وهذا درس عظيم - يقول :
كنت في مجلس الإمام أحمد فقال : من أين أقبلتم ؟ فقالوا : من مجلس أبي
كريب - محدث من المحدثين - فقال اكتبوا عنه ؛ فإنه شيخ صالح ، فقلنا له :
إنه يطعن عليك - يعني يذكرك بسوء ويذمك - ، فقال الإمام أحمد : فأي شيء
حيلتي فيه شيخ صالح قد بُلي بي .
لم
يمنعه ذلك أن ينصفه أو يذكر فضله وأن يكف عن الرد عليه بما قد يسوء ويشوه
ويبلبل الناس، ولذلك من أعظم ما ينبغي أن نفقهه ، وأن نعلمه ، وأن نستفيده
من دروس الأئمة تجردهم لله - عز وجل - وعدم انتصارهم لأنفسهم، وقصدهم
المصلحة العامة دون المصلحة الشخصية ، ودورانهم مع الحق دون دورانهم مع
أنفسهم ولا آرائهم .
ولذلك هذه المواقف من هذا الإمام العظيم وهو إمام أهل السنة تبين لنا
منهج أهل السنة في إحسان الظن والتماس العذر وعدم الرد على من يخالف، ففرض
الرد عليه إنما لإظهار الحق ، وإن كان لا بد منه على ما كان من رسول الله -
عليه الصلاة والسلام - عندما كان يقول : ( ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا !
) .
وهذه جولة من الجولات المهمة التي ينبغي أن نستفيد منها ، خاصة في
هذه الأيام التي فيها الناس يسمعون من هذا قدحاً في هذا ومن ذاك عزاً في
الآخر ، فيسقط عندئذ هذا وذاك ، ولا يبقى عند الناس حرمة لأهل العلم ولا
للعلماء، وهذه الأمور إنما هي أساس للمسلم بوصفه مسلماً ، فكيف وإن كان
عالما أو داعية أو مجاهداً في سبيل الله أو قائماً بأمر من أمور الخير
والدين لا يقوم بها مثله ؟
فإنه
ينبغي أن يكون المراعاة لحاله وشأنه والثناء عليه والتوصية به ، وإرشاد
الناس للإقتداء به أكثر مما ينبغي أن يذكر مما يخالف فيه أحد غيره من رأي
أو اجتهاد .
الجولة العاشرة : مع العابد
الذي
وصفه إبنه إجتهاده في العبادة والنوافل فقال : " كان أبي يصلي في كل يوم
ثلثمائة ركعة ، فلما مرض من تلك الأسواط - أي من بعد الجلد والمحنة في
السجن ثمانية وعشرين شهراً - أضعفته ، فكان يصلي في اليوم والليلة مائة
وخمسين ركعة وقد بلغ الثمانين " .
هذا عندما ضعف ومرض وكبر في السن صار يصلي في اليوم مائة وخمسين ركعة !
فأي واحد في هذه الأعصر - إلا من رحم الله - يدِّعى أنه يفعل مثل هذا
الفعل ؟
فلذلك
لا يكون أهل العلم علماء حقيقيون ؛ إلا أن يجمعوا مع العلم العبادة والصلة
بالله سبحانه وتعالى، ولذلك يقول أحد طلاب العلم : أنه جاء الى الإمام
أحمد مسافراً فنزل ضيفاً عليه، فأعد له ماءً ثم ذهب ، فجاء في الصباح فرأى
الماء لم يمسه فقال : طالب حديث لا يقوم الليل ! كأن هذه المسألة في ذهنه
ليست مقبولة ولا معقولة ولا متصورة، فقال : أنا مسافر، قال : وإن كنت
مسافراً ؛ فإن مسروق حج ولم ينم الا ساجداً .
فهذا
يدلنا على ما كان عليه أهل الإيمان من الصلة بالله التي نفتقر إليها في
هذه الأيام كثيراً .. قد نكثر من الكلام ومن الخطب والمواعظ ، وقد نكثر مما
نقرأ في الكتب ونقلّ كثيراً من دوام الصلة والطاعة والعبادة والصلاة
والقيام والذكر والتلاوة !
ويقول
عبد الله أيضاً في وصف أبيه :" كان أبي يقرأ كل يوم سبعاً - يعني يختم
القرآن في سبعة أيام -وكان ينام نومه خفيفه بعد العشاء ، ثم يقوم إلى
الصباح يصلي ويدعو ، وإذا صلى العشاء الآخرة ركع ركعات صالحة " .
ويقول
: " وكان أيضاً ربما سمعت أبي في السحر يدعو القوم بأسمائهم فكان يكثر
الدعاء ويخفيه ويصلي بين العشائين ، فإذا صلى العشاء الآخرة ركع ركعات
صالحة ثم يوتر وينام نومة خفيفه ثم يقوم ويصلي وكانت قراءته لينه ربما لم
أفهم بعضها ، وكان يصوم ويدع من الصوم ، ثم يفطر ما شاء الله ولا يترك صوم
الإثنين والخميس وأيام البيض إلى أن مات " .
فهذا كان حاله في العبادة وصلته بالله سبحانه وتعالى، على أمر فريد عجيب كما نرى .
الجولة الحادية عشر : مع الداعي المتضرع
ثم نمضي مع دعوات الإمام أحمد وقد كانت له دعوات جليلة عظيمة، حتى أن
ابن الجوزي أفرد فصلاً لدعوات الإمام أحمد لنرى كيف كان أولئك الصالحين، من
دعائه رحمة الله عليه أنه كان يقول دبر كل صلاة مكتوبة : " اللهم كما صنت
وجهي من السجود لغيرك فصن وجهي عن المسألة لغيرك " .
وكم من الناس يقعون في المسألة لغير الله من غير أن يشعروا ، ويقعون
في شيء من الخوف أو الرجاء لغير الله - سبحانه وتعالى - دونما ينبغي أن
يكون لمقامات المؤمنين الصادقين .
ويقول
في دعوة عظيمة تبين لنا صفاء نفسه ونقاء سريرته وحبه الخير للناس : "
ينبغي أن يكون المسلم محباً للخير عند الآخرين ؛ لأن هذا من علائم كمال
الإيمان كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم : ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب
لأخيه ما يحب لنفسه ) " أ.هـ كلام الإمام .
فلذلك
هذه النفسية - إن وجدت في قلب المؤمن - نظر إلى الطائع فإذا به ينظر نظرة
محبة وإجلال واقتداء ، إذا نظر إلى العاصي لم ينظر إليه نظرة إزدراء
وإحتقار بل نظرة شفقة ورحمة ورغبة في الإصلاح والإرشاد مع النصح واللطف .
هذا هو الذي يفارق فيه المسلم الفطن المؤمن الحكيم في دعوته وبين من
ينظر إلى الناس ولا يرى فيهم إلا شراً ، ولا يتوقع منهم إلا منكراً ، فكأنه
يفرح بخطيئة الرجل ويفرح بزلة القول ، وإذا به يريد أن يجرم الناس أو
يفسقهم أو يبدعهم أو يكفرهم، هذه نفس مريضة مظلمة ليست نفس مشرقة بالإيمان
من محبة للخير وكان من دعاء الإمام أحمد يقول وقد كثرت الأهواء والفتن
والبلايا وانحرافات العقيدة في عهده : " اللهم من كان على هوى أو على رأي
هو يظن أنه على حق وليس هو على حق فرده الى الحق حتى لا يضل من هذه الأمة
أحد " .
انظروا إلى القلب الشفيق الرحيم وقد رأى الفتن تغتال العقول وتفسد
القلوب، وأشفق على هذه الأمة مما جاءها من البلاء ومن هذه الفتنة العمياء
ومن هذه المقالات الفلسفية والإنحرافات العقلية : " اللهم لا تشغل قلوبنا
بما تكفلت لنا به ولا تجعلنا في رزقك خولاً لغيرك ، ولا تمنعنا خيراً من
عندك بشرِّ ما عندنا وترانا حيث نهيتنا ولا تفقدنا حيث أمرتنا أعزنا
بالطاعة ولا تذلنا بالمعصية " . هكذا كان دعاءه .
ومن
ذلك أنه كان يقول : " اللهم وفقنا لمرضاتك ، اللهم إنا نعوذ بك من الفقر
إلا إليك ،ومن الذل إلا لك ، اللهم لا تكثر علينا فنطغى ولا تقلل علينا
فننسى ،فهب لنا من رحمتك وسعة رزقك ما يكون بلاغاً لنا وأغثنا بفضلك يا رب
العالمين " .
فهذه الدعوات تبين لنا ما كان من فقه الإمام أحمد وبصره بهذا الأمر .
الإمام والفتنة
والحق أن المحنة التي وقعت له هي أبرز مفصل ومرحلة من مراحل حياته ،
بدأت في عام ثمانية وعشر ومائتين ، واستمرت حتى عام أربع وثلاثين ومائتين ،
وابتلي فيها الإمام أحمد بصور شتى .. كان منها السجن والضرب ، وكان منها
أن يعلق من رجليه فيدلى رحمة الله عليه، وكان منها أن يلف في بسط ويداس وهو
في داخل البساط حتى يدمى رحمة الله عليه، وكان كالطود الشامخ ، لكن كانت
عنده حجة مفحمة وبرهان قاطع أعيا به العقول ، وأخرس به الألسنة ، ووقف
الجميع أمامه لا يملكون منه إلا حجة الضعيف - وحجة الضعيف هي القوة والطبش -
تلك ا