-يقول الحق سبحانه: «ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في
البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا»
(الإسراء، 70)، والخطاب القرآني هنا متعلق بالإنسان عموماً، ولا يخص فئة من
البشر دون أخرى. ولكن رغم هذا التكريم والتفضيل الرباني الأزلي لبني آدم
جميعاً، حتى أن الملائكة أُمرت بالسجود لآدم، إلا أن رحلة الإنسان مع
العذاب وامتهان الكرامة كانت طويلة جداً.
-فقد مرت أزمان كان فيها الإنسان يستعبد أخاه الإنسان ويفعل به ما يشاء،
وكأنه شيء من الأشياء وليس أخا له في الإنسانية، والانتماء إلى ذات الأصل
الواحد، والتميز بذات النفخة الإلهية الأزلية، حين نفخ فيه الرب من روحه.
وقامت حضارات في بابل وطيبة وأثينا وروما وبغداد على الاستعباد ورق الإنسان
لأخيه الإنسان، وأصبحت هذه الحضارات أثراً بعد عين، ولكن التاريخ بقي
حاملا مأساة استعباد الإنسان للإنسان.
-ومرت أزمان كان فيها الإنسان يسخر أخاه الإنسان، فيقوم أحدهما بكل العمل،
ويستمتع الآخر بكل ما ينتجه العمل، فأصبح العمل نقمة على إنسان ونعمة
لإنسان، وكأن ذلك كان منذ الأزل قضاء مقضياً، أو قدراً لا مانع له ولا
دافع. وقامت حضارة هنا وأخرى هناك على عرق هذا ودم ذاك، وفي الخاتمة جف
العرق ونُسيت الدماء، ولكن بقيت مأساة الإنسان في علاقته مع أخيه الإنسان
وصمة في جبين تاريخ لا ذنب له فيها بقدر ما أن الذنب هو ذنب ذات الإنسان.
-ومرت أزمان كان فيها الإنسان يجبر أخاه الإنسان على الإيمان بما يؤمن به
المهيمن منهما، حتى لو كان ذاك الإيمان قائما على أسس هشة، فيفتش في ضمير
وروح أخيه الإنسان، فإن وجد، أو ظن أنه وجد ما يتعارض مع ما يؤمن به، كان
السجن أو القتل هو المصير، رغم أن الخالق قرر منذ الأزل أن الاختلاف هو من
طبيعة الأمور، ومن طبيعة الخلق الذي خلق: «ولو شاء ربك لجعل الناس أمة
واحدة ولا يزالون مختلفين» (هود، 118). قامت محاكم التفتيش، وكانت لجان
التفتيش عن الضمائر، ولكن في النهاية لا يصح إلا الصحيح، ولكن بعد أن يدفع
الإنسان الثمن الأغلى من الروح والجسد معاً. والغريب في الأمر هو أن اضطهاد
الإنسان للإنسان إنما يُمارس باسم قيم عليا ومُثل نبيلة وفضيلة يُدعى
الدفاع عنها. يقول مفكر في التعليق على هذا الأمر: «وعلى الرغم من أننا لا
نحب أن نعترف بالأمر، إلا أن أسوأ الفظاعات التي ارتكبها أسلافنا
الأوروبيون إنما ارتكبت باسم الرب والوطن والصالح العام» (بيرنهاردت ج.
هروود. تاريخ التعذيب (دمشق: دار الجندي، الطبعة الثانية، ص. 53، 1998)،
وما ينطبق على الأوروبيين في هذا التعليق، ينطبق حقيقة على كل الشعوب في
فترة من فترات تاريخهم، إن لم يكن حتى الآن.
-واستلزم الأمر آلاف السنين حتى استطاع الإنسان أن يحقق بعض التقدم في
إنسانيته، ولا أقول في علمه أو تقنيته أو معرفته، وكان الثمن المدفوع دماً
ودموعاً أثقلت كاهل تاريخ ما زال يئن تحت وطأتها. تقدم الإنسان كثيراً في
علمه وتقنيته ومعارفه عن نفسه وعن الكون من حوله، ولكنه بقي متخلفاً في ما
يتعلق بعلاقة الإنسان بالإنسان. جاءت الأديان لتذكر الإنسان بإنسانيته: «يا
أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن
أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير» (الحجرات، 13). وجاء المفكرون
عبر التاريخ مذكرين بإنسانية الإنسان، ومنذرين من نتائج اضطهاد الإنسان
لأخيه الإنسان، فقال جان جاك روسو: «ولد الإنسان حراً ولكنه مقيد بالأغلال
في كل مكان»، ومن قبله كانت كلمة عمر بن الخطاب الشهيرة: «متى استعبدتم
الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً». وانفجرت الثورات جراء اضطهاد الإنسان
للإنسان، فكانت الثورة الفرنسية مثلا، التي أكدت في المادة الأولى من إعلان
حقوق الإنسان والمواطن من أنه: «يولد الناس أحراراً ويظلون أحراراً
متساوين في الحقوق». وأخيراً وصل الإنسان إلى قناعة بأن إنسانية الإنسان،
واحترام كرامته هي أساس كل مجتمع إنساني، أو يستحق أن يوصف بهذه الصفة،
فكان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الصادر عن الأمم المتحدة عام 1948،
الذي ينص في بنده الأول على أن: «كل البشر يولدون أحراراً ومتساوين
بالكرامة والحقوق ويتميزون بعقول وضمائر وواجبهم التعامل مع بعضهم بعضا
بروح الأخوة». وفي بنده الثالث: «لكل فرد الحق في ممارسة الحياة والحرية
والأمان الشخصي»، وفي البند الخامس: «يُمنع ممارسة التعذيب ولا يجوز تعريض
الفرد لعقوبات أو معاملة قاسية أو وحشية من قبل أي جهة كانت ولأي سبب كان»،
وفي البند التاسع: «يُمنع الحجز التعسفي والاعتقال الاعتباطي وكذلك
النفي».
-ولكن ورغم تأكيد الديانات، وما قاله المفكرون والمصلحون عبر تاريخ المأساة
الإنسانية، ورغم الثورات وانفجارات البشرية، ورغم اعتراف العالم بالإنسان
وإنسانيته وحقوقه على أنها هي معيار التقدم والتخلف، هي محك الحضارات
ونموها واستمرارها، إلا أن هناك مجتمعات في عالم اليوم ما زالت تتعامل مع
هذا الإنسان وكأنه شيء من الأشياء وليس الخليفة للرب على هذه الأرض، وأن كل
الأشياء إنما وجدت من أجله ولأجله: «وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض
جميعاً منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون» (الجاثية، 13). ونفس المعنى
يجسده حديث الرسول (صلى الله عليه وسلم)، القائل: «لأن تُهدم الكعبة حجراً
حجراً، خير عند الله من أن يُهدر دم مُسلم»، بمعنى أن الأشياء، حتى لو كانت
الكعبة وحجارتها، خُلقت للإنسان، ولم يُخلق الإنسان للأشياء.
-هناك مجتمعات لا تعتبر الإنسان مفهوماً من مفاهيمها، وليس الإنسان إلا
مجرد رقم أو مجرد مسمار في آلة جبارة لا تعترف إلا بنفسها، وليس له إلا أن
يؤمر فيطيع، ولا معنى بالتالي لكائن اسمه الإنسان، أو مفهوم اسمه
الإنسانية. مثل هذه المجتمعات، وإن بدت قوية ومتماسكة في لحظة من لحظات
الزمان، إلا أنها في النهاية ستذوب وتذوي، ولا يبقى في النهاية إلا من
يحترم الإنسان وإنسانية الإنسان، فهذه سنة الحياة كما قدرها خالق الحياة:
«سُنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا» ( الفتح، 23).
-في شعار من شعارات الانتخابات البريطانية، كان هنالك شعار يقول: «كل ما
يحتاجه الشر لينتصر هو أن يقف أهل الخير ولا يفعلون شيئاً». توقفت عند هذا
الشعار كثيراً، لأنه بالفعل يعني الكثير، فهو تلخيص أكيد لتاريخ الإنسان
على هذه الأرض. صحيح أن الشر والخير مفاهيم نسبية تختلف باختلاف الزمان
والمكان والمجتمعات والأفراد، ولكن مهما كانت الأمور نسبية، فإن إيذاء
الإنسان لأخيه الإنسان هو الشر المطلق، أو هذه قناعتي على الأقل، مهما كانت
نسبية الأمور.
صمت الإنسان واستسلامه لكل هذا الشر سبب رئيس في مأساته، وقد قيل في
الأمثال: «يا فرعون من فرعنك، قال ما لقيت أحدا يقول لي: لا» .. هكذا سارت
الأمور، وهكذا تسير، إذا بقي الصمت والاستسلام هما سيدا الأحكام.. ودمتم
بخير.