أيتها
الحرية المحبوبة ! تحتفل بأعيادك الأمم، وتنصب لتمجيدك التماثيل، وتتشادق
بأمجادك الخطباء، وتتغنّى بمفاتنك الشّعراء، ويتفنّن في مجاليك الكتّاب،
ويتهالك من أجلك الأبطال، وتسفك في سبيلك الدماء، وتدك لسراحك القلاع،
والمعاقل. ولكن، أين أنت في هذا الوجود ؟
كم من أمم تحتفل بعيدك، وقد وضعت نير العبودية على أمم.. وأمم !
وكم من قـوم نصبوا لك التماثيل في الأرض، وقـد هدموك في القلـوب، والعقول، والنّفوس.
وكم من خطيب فيك مفوّه، وقد كمّ عن ذكراك الأفواه.
وكم من شاعر فتنه جمالك، ولكن لا شعور له مع المستعبدين.
وكم من كاتب يلبسك الحلل الضّافية من نسج أقلامه، ولكنّه لا ينيلك خرقة بالية من صنع يده.
وكم من أبطال استشهدوا لإنقاذك، ولكن خلفهم من قضى عليك في مهدك.
وكم من دماء زكية، كتبت بها صحائف تاريخك، ولكن محتها دماء قلوب تحدّرت دموعا من الجفون.
وكم هدم لسراحك ما هدم ولكن بني على أنقاضه سجون للأحرار!
فأين أنت أيّتها الحرية المحبوبة، في هذا الوجود ؟
فتّشت
عنك في قصور الأغنياء، فوجدت القوم قد استعبدهم الدينار، والدرهم – تعس
عبد الدينار والدّرهم – وغلّت أيديهم إلى أعناقهم الشّهوات.
فتّشت عنك في أكواخ الفقراء، فوجدت المساكين قد قيّدهم الفقر، فرماهم في غيابات الجهل، ودركات الشّقاء.
فتّشت عنك في الشعوب القوية، فوجدت العتاة الطّغاة قد قيّدتهم الأطماع في تراث الضعفاء.
فتّشت عنك في الشعوب الضعيفة، فوجـدت الأنضـاء المرهقين، قـد كبّلهم استبداد الأقوياء.
أنت.. أنت الحقيقة الخفية، خفاء حقيقة الكهرباء!
أنت.. أنت الرّوح السّارية في علم الأحياء!
ولئن
خفيت بذاتك، فقد تجليت على منصة الطبيعة في بسائط الأرض، وأجزاء السّماء،
فأبصرتك عيون اكتحلت بإتمد الحقيقة، واقتبست منك عقول صقلت بالعرفان،
واحتضنتك صدور، أنيرت بالإيمان، وتذوّقتك نفوس ما عبدت إلا الله، وخدمك قوم
آمنوا بالله وصدقوا المرسلين.
آه.. آه أيّتها الحرّية المحبوبة !... واشوقاه إليك، بل واشوقاه إليهم !
المحيا محياكم، والممات مماتهم.
أنقذ اللّهم بهم عبادك، وأحيي بلادك، وألحقنا – اللهم بهم – غير مبّدّلين، ولا مغيّرين.. آمين..
* عن جريدة البصائر، السنة الرابعة، ع 175، الجمعة 3 جمادى الثانية الموافق ليوم 21 جويلية 1939 م