إنَّ الصداقة تحتمل سوء التفاهم البسيط، الذي يُحلُّ بشيءٍ
من العدالة، ولكن الحذر مما يتكرر، فهذا الذي يعني ضرب نواقيس الخطر.
والعلاقة لا تنقطع بالمراجعة، بل الذي ينقطع ـ في حالة كبر المشكل، أو
تكرره ولو كان بسيطاً ـ مستوى الصداقة أو كلُّ الصداقة، لكن تبقى العلاقة!
بقلم إبراهيم العسعس
إذا قلت الصداقة، فقد قلت المحبة.
لو أقام الناس أمورهم على المحبة، لاستقامت حياتهم! ولكن الحكيم الخبير يعلم أن الخلق لا يلتزمونها، فطلب العدالة.
المحبة فضيلة، والعدالة فرض. "فلو تحاب الناس، وتعاملوا بالمحبة لاستغنوا
عن العدالة، فقد قيل العدالة خليفة المحبة تستعمل حيث لا توجد المحبة".
المحبة فضيلة بين الناس، أي في شبكة العلاقات الواسعة، لكنها بين الأصدقاء
فرض. لا يمكن تخيل صداقة بلا محبة. سيقول مستعجل: بدأت تتحدث عن البدهيات،
بالطبع لا صداقة بلا محبة! وعلى عجل أجيب المعترض: صدقت، ولكن هذا لو كنا
نتحدث عن المشاعر والعواطف! ولكننا نتحدث عن المحبة من حيث هي ضابط وقانون
للتعامل بين الأحباب!
إليكم ما أفكر به، مع أني أعرف أنكم ستجدونه غريـبا، وقد يراه بعضكم مبالغة! وصديقي الحكيم كفاني مؤونة الشرح، فقد:
قال لي الحكيم: صديقي يحبني ويحترمني، ولكنه يعاملني معاملة الأعداء!
قلت بدهشة: يا سيدي، كلامك كبير جدا، وعقلي الصغير لا يستطيع استيعابه، كيف صديقك، ويحبك، ويحترمك! وتقول يعاملك معاملة الأعداء؟!
قال الحكيم: إنه يحاول ضبط علاقتنا على أساس العدالة!
وما في ذلك؟ قلت، وأضفت: بورك فيه من صديق عادل!
فقال الحكيم: يا صديقي، عنوان الصداقة المحبة، وهي ليست مجرد مشاعر، إنها
قانون التعامل بين الأصدقاء، وهي ضابط العلاقة بين كل حبيبين، فإذا احتاجا
إلى العدالة فهذا يعني أن مشكلة قامت بينهما! ولم تستطع المحبة أن ترفع
المشكلة. أليست العدالة بديل المحبة، تستعمل حيث لا توجد المحبة؟ وعندها
عليهما مراجعة صداقتهما، هناك بلا شك ثغرة، وسوء تفاهم في الموقع على شبكة
العلاقة الخاصة بالأصدقاء، أتذكرها؟ إذا دخلت العدالةُ بين صديقين أفسدت
صداقتهما !
قلت: هذا من أغرب الكلام! ولكن لأصدقـك القول إنَّ له لمنطقاً، وإنَّ له
لوجهاً، وسأتركه كما هو ليأخذ به من يشاء ويدعه من يشاء . وتركتُ الحكيم
وشأنه كي لا أثقِل عليه.
ولأنني أخشى أن يفهم كلام صديقي الحكيم على غير الوجه الذي يريد، أحببتُ
توضيح بعض كلامه كوني أعرف الناس به وبمنطقه. فالحكيم لا يقصد أنَّ كلَّ
مشكلة ستـقطع الصداقة ولا بُدَّ. ولا يعني كذلك أنَّ كلَّ مراجعة ستـقطع
العلاقة حتماً.
إنَّ الصداقة تحتمل سوء التفاهم البسيط، الذي يُحلُّ بشيءٍ من العدالة، ولكن الحذر مما يتكرر، فهذا الذي يعني ضرب نواقيس الخطر.
والعلاقة لا تنقطع بالمراجعة، بل الذي ينقطع ـ في حالة كبر المشكل، أو
تكرره ولو كان بسيطاً ـ مستوى الصداقة أو كلُّ الصداقة، لكن تبقى العلاقة!
هل تذكرون عندما شبهما العلاقات سابقاً بالشبكة، وقلنا إن معارف الإنسان
موزعون على هذه الشبكة، وكل ما في الأمر أنه يوزع المعارف عليها كل حسب
مكانته، وأنه يتابعها بشكل مستمر ليجري عليها ما يلزم من تعديل.
والآن أنا متأكدٌ أنَّ كلَّ واحدٍ منكم لو حفر في ذاكرته، سيجد فيها أنه
عتب على صديق يوماً ما من أجل أمرٍ لو عُرِض على العدالة لَمَـا وجدت
العدالةُ في الأمر مَحلاً للعتب، ولكنه بقوانين المحبة له شأن آخر. وقد
يكون صديقـك إلى الآن غيرَ مدرك لسبب غضبك منه!
... قال لي: اعـتدتُ وصديقي على أسلوبٍ مُعيَّـن في اللقـاء، وفي الوداع،
وفي الحديث. وتكرَّر منه تَـقـلٌّبٌ في كلِّ هذا، وسألتُه مرة معترِضاً:
مالَـكَ ؟ فقال بعنف: ماذا هل أسأتُ لك؟ هل صدر مني ما أغضبك؟ ماذا فعلتُ؟
فقلتُ في نفسي: صديقي يريد أن نتحاكم إلى الصواب والخطأ، وأكثر من ذلك ـ
وهو ما أخافني منه ـ صديقي صعبٌ مُتقلِّبٌ يتحكم بقوانين العلاقة كما يشاء،
فينتقلُ من المحبة إلى العدالة وبالعكس حسب الطلب والهوى، وهو في كلٍّ
مصيب! وبلا تردد فعلتُ ما تتوقعون ... وإلى لقاء.