حدّثني صديقي مسعود قال.
أذكر أيام طفولتي أن رأسي تعرض لغزو حشرة القمل. فكانت هذه الحشرة المتطفلة تنتقل بين أبناء القرويين خاصة، لطبيعة عيشهم، وظروف معيشتهم.
وذات يوم دخلت المنزل وتوجهت ناحية فناء البيت. أذكر أن الفصل كان شتاء وكانت أمي تحب الجلوس في الفناء لقضاء بعض حاجيات البيت تحت أشعة الشمس الدافئة، ففي ذلك اليوم وجدتها مكبّة على طبق من الحلفاء، وهي تلتقط الحصى والبذور بين حبيبات العدس، لقد كان عدسا رديئا من زمن الاشتراكية المبجل.
رفعت أمي رأسها وقالت: مسعود تعالى.. أقبل يابني.
فاتجهت نحوها ثم قالت اجلس.. ضع رأسك هنا. وأشارت الى حجرها
فجلست على السجاد وأنا أدفن رأسي في حجرها المليئ بعبق البخور. فقد المكان الوحيد الذي أستطيع أن أسند رأسي اليه وأنام فيه مرتاحاً مطمئناً، لتبدأ بعدها أنامل أمي الحانية بعملية تمشيط واسعة لأدغال شعري الأشعث. تعقبها بين الحين والآخر، ضغطة على الرأس، أسمع بعدها طَقّة خفيفة، فأعرف حينها أنها قصعت قملة ظفرت بها مختبئة بين الشعر، أما أنا فكنت أفكر في عربتي الجديدة التي صنعها لي أخي الأكبر مني سنا من القش والأسلاك. كنت أحلم باصطياد حمامة ابن جارنا. وأسرح بخيالي بين الشّعاب والوديان، وغابات النّخيل، في عالم لا أعرف فيه إلاّ اللعب والمرح..
رغم أن أنامل أمي كانت وسيلة قتل فتّاكة لجموع القمل التي غزت شعري، الا أنّها كانت جدولا من الحنان الملائكي، فثمّةَ سرّ يا أُمي في الأَمر، فَكيف لِضمة صدرٍ حانيَةً. ولمسة من أناملك المخملية، وغفوة خفيفة على حجرك الدافئ، أنْ تحتَوي مَالَم تحتويه أوطاننا اليوم.
ولا تزال أمي ساهرة على العناية برأسي حتى يصبح خاليا من مستعمرات القمل وبيوضها في غضون أيام.
فما كان يزيد من الترابط الأسري إلاّ القمل وعملية البحث عنه، خصوصاً أنه ينتقل من شخص لشخص في العائله، وكل واحد يحسّ بمعاناة أخيه،
حتى صرت أتمنى أن يعود ذلك العدو الى مستعمراته على رأسي، فتعود معه أنامل أمي النّاعمة، بل إنني فكرت لو كانت الأمور تأتي على مُرادي، لرفعت دعوى قضائية على شركات الشامبوهات التي تسببت في انقراض تلك الكائنات التي لم يخلقها الله عبثاً.
فكل أبناء ذلك الجيل الجميل، -والذين لن يتنكروا لماضيهم مهما كان- قد عايشوا تلك التجارب القاسيه والجميله في آن واحد، إنها حقائق ذلك الزمن، وإن كان يرويها الآخرون بشيء من التقزز. فعلينا ألاّ ننسى ماضينا وأن نتحدث عنه أمام الآخرين ولا نستاء منه ... أنا اعتقد جازماً أن من تجاوز عمره الخامسة والعشرين الآن كان يمتليء رأسه بتلك الزّواحف الجميلة خاصة القرويين أمثالي.
فياليتِ الزمن يعودُ بي إلى ماقبل بلوغ الهم..
ليتني أندفن بين أحضانك يا أمي ..
و إلى مالا نهاية أنتحب....
ليتني أسترد سكينتي وطفولتي وقملي..
فأسترد معها حنانك وحبك ومودتك..
فربما ترقّ الأيام ويحنّ الزمان وتعطف قسوة الحياة علي ويتحقق الأمل والرجاء والعودة إلى مملكتك التي ولدت بها وترعرعت عليها وعشت طفولتي فيها...
أمي ستبقين في قلبي مهما كانت الظروف وسيبقى شوقي إليك هو دمي الذي يجري في عروقي.
ولك الجنة بعد ذلك.