تعبت البذرة من البحث عن قطرة ماء، طافت الصحراء لأكثر من ألف عام
تزروها الرياح فتأخذ بها ذات اليمين وذات الشمال،
قطعت وهي معلقة بوبر الجمال المدن الكثيرة،
شاركت بمعارك الفرسان، وبأفراح العرائس وبالجنازات الملفوفة بالأكفان،
سمعتهم يتحدثون عن الحياة ...
عن الحب...عن الموت ... عن الأحزان ؟ !
ملت الترحال وهي تلتهم مخلوطة بطعام القطعان....ليتخلصوا منها بعد ذلك مع البراز في أرض جديدة
خاوية من كل إنسان...
سئمت حياة الترحال ...رغبت بتذوق طعم الأمان، ...
طعم الحياة، فاقتربت ذات صباح من نبتة صبار ترجوها قطرة ماء،
هزتها وهي أسيرة أشواكها صائحة:
- أرجوك قطرة ماء،...من الندى الفائض بين إبرك السمحة علني اعرف الاستقرار !
نظرت ثمرة الصبار مستغربة منها وقالت:
- أتستعجلين على الحياة ؟ ألا تعرفين بأنك ستلتصقين بالأرض بعدها و تفقدين حرية القرار
بالترحال عبر البوادي والتجوال بين الأمصار ؟ !
وقبل أن تجيبها بالإيجاب سقطت فوقها قطرة من ندى فانزلقت بها إلى ثغرة بسيطة بين الحصى والرمال وبدأت تشعر ببعض الانتفاخ،
فضحكت من منظرها الغريب وقالت:
-أخيرا سأستدل على أصلي ونوعي ...أخيرا سأتذوق طعم الحياة، !
نظرت ثمرة الصبار إليها بحزن وقالت:
-إنها بداية النهاية يا عزيزتي فلا تتعجلي !
قاطعتها البذرة وقد أخذت بالانفلاق و تخلصت من غلافها وبدأت تمد بالأرض جذورها بفرح:
- بداية أم نهاية فأنت ولاشك تدركين تلك المتعة الفائقة التي تحل بنا ونحن نمر بتلك المراحل من التحول،
مررت بلا شك باللذة التي تحتكرين.؟
أجابتها ثمرة الصبار مستغربة:
- لأجل هذا تستعجلين ؟ إلى الموت بعد أن كنت تحتفظين بالحياة منذ آلاف السنين ؟ ؟ ؟
أجابتها البذرة وهي تمد سيقانها بافتخار وغرور:
-احتفظ بالحياة ولكن لم أذقها !....لم أذق متعة التربة تحتضني بدفئها....
لم أتمتع بقطرات الماء تسري بالخلايا والعروق ....
لم أتعرف على أنواع المعادن والفيتامينات ولا ثاني أوكسيد الكربون ولا الأكسجين...
ولا بدغدغة الفراشات تستثير زهوري البهية ولا بغناء الطيور،...
ولا حتى بدفء الشمس عند الشروق تغمرني بالحنان ولا بالنسمات العليلة تهز علي الأغصان،....
بكل بساطة لم أكن إلا بذرة تافهة ؟
تفاجأت ثمرة الصبار من حماسها للحياة وقالت:
- ولكن أنت تدركين بأنك بعد كل هذا ستذبلين وتموتين وما الحياة التي تأملين إلا بضع ساعات
لا تتجاوز دورة يوم واحد هل فهمت ؟
ألا زلت بهذه التجربة تتمسكين ؟ ؟ ؟
ابتسمت البذرة وقد أصبحت نبتة كاملة تحمل بين أغصانها الزهور وبعض من الثمار
التي عقدت وقد حوت في بطنها البذور وقالت بغرور:
-إنها الحياة يا عزيزتي ...
أنها بكل بساطة هي الحياة وبعد أن كنت بذرة بسيطة وحيدة لا نفع منها ها أنا ذا استمتع بها وأطعم
وانثر بعد موتي الحياة الجديدة محفوظة ليوم موعود .
ثم تابعت وهي تهتز بفرح وقد شعرت بأوصالها ترتخي وببعض أغصانها الذبول:
أنا لم أتذوق الحياة بكل عطائها فقط ها أنا اترك بعض مني للأجيال القادمة لأحمل لكل جائع بعض من طعام
ولكل عاشق بعض من الفرح والسرور...
أنها الحياة بكل ما فيها أعيشها فلا عتب بعد الذبول ولا ندم مهما ضاع منا في
بطون السحالي أو الطيور ومهما جمع منا بالقبور،...
سيبقى بعضنا مهما تعاقبت الأيام والسنون يعيش الحياة ثم يعطها
بكل ما تحمله من أمل وشقاء وسعادة وحبور
***