نزح اليهودمن بلاد الشام إلى مهاجر نبي آخر الزمان ؛ انتظارا لقدومه ، كما تخبرهم التوراةالتي حرفوا الكثير منها ، وكانوا يستفتحون على قبيلتي الأوس والخزرج بمجيء نبي آخرالزمان الذي سيتبعونه ، ويقاتلون به كل من يقف ضدهم ، وكانت تصوراتهم أنه لابد أنيكون هذا النبي من نسل يعقوبعليه السلام، بحجة أنه الدم الخالص الذي لم يختلطبدماء أخرى ، وليس مثل دم إسماعيلعليه السلام الذي اختلط بدماء الجراهمة العرب ..
فلما جاء النبي الخاتم من نسل إسماعيل عليه السلامكفروا به ، فلعنة الله علىالكافرين ، ولن نخوض في هذه القضية إلا بالقدر اليسير الذي نؤكد به أن اختلاطالدماء يعطي إشارة إلى عدم الأنانية ، وعدم العنصرية ، بل يشير إلى العالمية التي تمتع بها الدين الإسلامي الحنيف.
لقد بدأت الخيانة اليهودية للإسلام ورسولهالكريمصلى الله عليه وسلممنذ أول لحظة وطئت فيها قدميه الشريفتين أرض ( يثرب ) المدينةالمنورة بقدوم الحبيب صلى الله عليه وسلم إليها ، وتتمثل هذه الخيانة في موقف حييبن أخطب الذي ترويه ابنته صفية التي أصبحت فيما بعد أم المؤمنين رضي الله عنها قالت : " كنت أحب ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر ، لم ألقهما قط مع ولد لهما إلا أخذاني دونه ..
فلما قدم رسول اللهصلى الله عليه وسلمالمدينة ، ونزل قباء في بني عمرو بن عوف غداعليه أبي " حيي بن أخطب " وعمي " أبو ياسر بن أخطب " مغلسين ، فلم يرجعا حتى كانا معغروب الشمس ، فأتيا كالين كسلانين ساقطين ، يمشيان الهوينى ، فهششت إليهما كماكنت أصنع ، فوالله ما التفت إلي واحد منهما ، مع ما بهما من الغم ، وسمعت عمي أباياسر وهو يقول لأبي " حيي بن أخطب " أهو هو؟ قال : نعم والله !! قال : أتعرفه وتثبته ؟ قال: نعم ، قال : فما في نفسك منه ؟ قال : عداوته والله ما بقيت.
ويعلق ابن إسحاق علىشخصية حيي بن أخطب وأخيه أبي ياسر فيقول : "وكان حيي بن أخطب وأخوه أبو ياسر بنأخطب من أشد يهود للعرب حسدا ، إذ خصهم الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم ، وكاناجاهدين في رد الناس بما استطاعا ، فأنزل الله تعالى فيهما " ود كثير من أهل الكتاب لويردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفواواصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير" .
هذه العداوة التي تكمنفي قلب يهود ، ويمثلهم سيدهم حيي بن أخطب كانت بداية الخيانة اليهودية ، منذ أول لحظةلوصول القائد إلى المدينة المنورة ، ولهذا لم تفلح معهم كل محاولات السلم والرحمةوالعهود التي أبرمها معهم نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم .
واستمر مسلسل الخيانةبعد أن أبرم النبي الكريم صلى الله عليه وسلمعهدا أعطاهم فيه كامل الحرية الدينية ،وعدهم ضمن رعايا الدولة الجديدة ، لهم الحماية مثل غيرهم ، وطالبهم بحماية المدينة، كعناصر سكنتها ، ووضع بينهم وبين المسلمين المواثيق التي تضمن لهم حقوقهم ، ومعذلك بدأت سلسلة الغدر اليهودي الفاجر.
ولنبدأ بيهود بني قينقاع ؛لأنهم أول من خان وغدر ، ونقض العهد وفجر ، فقد كانوا يسكنون وسط المدينة المنورة ،ولهم سوق يتاجرون فيه بالسلاح والذهب ، وهما عدة اليهود دائما ، فالسلاح ليكون أداةتدمير الرجال ، والذهب لإغراء النساء ، ولعلك ـ أخي القارئ ـ تقرأ من بين السطور ماأريد الوصول إليه.
ففي السنة الثانية من الهجرة ، عقب عودة الرسولصلى الله عليه وسلممن غزوة بدر الكبرى التي عرفت بيوم الفرقان ، والتي وافقت شهر رمضانالمبارك ، وانتصر فيها المسلمون انتصارا ساحقا على مشركي قريش ، جمع رسول اللهصلى الله عليه وسلميهود بني قينقاع في سوقهم ، ثم قال : " يا معشر يهود ، احذروا منالله مثل ما نزل بقريش من النقمة ، وأسلموا ، فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل ، تجدونذلك في كتابكم ، وعهد الله إليكم !.
قالوا : يا محمد ، إنك ترى أنا كقومك ! لايغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب ، فأصبت منهم فرصة ، إنا والله لئن حاربناكلتعلمن أنا نحن الناس ، وهذا يشير إلى أنهم يعلنون حربا على الإسلام والمسلمين ،ويظهرون الحقد ، ويستهينون بانتصار المسلمين ، ويسخرون من قوتهم ، ويطالبون بلا خجلمناجزة المسلمين ، ويستفزونهم على المواجهة ، ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما أنزل هؤلاء الآيات إلا فيهم : " قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئسالمهاد قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهممثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار "(سورة آل : عمران 12 ، 13 )
ومع ذلك حفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم موقفهم هذاوتركهم ، حتى لا يدخل في مواجهة معهم ما دام ما نطقوا بهم مجرد قول ساخر ، لم يرق إلىدرجة الفعل ، فكظم النبي صلى الله عليه وسلمالذي وهبه الله سعة صدر وصبر وحلم كبير ، كظم غيظه ، وسكتعنهم ، غير أن بني قينقاع لم يقفوا عند هذا الحد ، بل تجاوزوه إلى فعل شنيع ، وهوالسخرية من امرأة عربية مسلمة ، كانت قد " قدمت بجلب لها فباعته بسوق قينقاع ،وجلست إلى صائغ بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها ، فأبت ، فعمد الصائغ إلى طرفثوبها فعقده إلى ظهرها ..
فلما قامت انكشفت سوءتها ، فضحكوا بها فصاحت ، فوثب رجلمن المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهوديا ، فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود ، فأغضب المسلمون ، فوقع الشر بينهم وبين بنيقينقاع ، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلمحتى نزلوا على حكمه ، فقام إليه عبد الله بن أبي بن سلولحين أمكنه الله منهم فقال : يا محمد أحسن في موالي ، وكانوا حلفاء الخزرج ، فأبطأ عليهرسول الله صلى الله عليه وسلمفقال : يا محمد أحسن في موالي ، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلمفأدخل يدهفي جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له : أرسلني ، وغضب حتىرأوا
لوجهه ظللا ثم قال : ويحك أرسلني !! قال : لا والله لا أرسلك حتى تحسن
في موالي ، أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود
تحصدهم في غداةواحدة ! إني والله امرؤ أخشى الدوائر !! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هم لك . .
ولماحاربت بنو قينقاع تشبث عبد الله بن أبي بأمرهم ، وقام دونهم فمشى عبادة بنالصامت ، وكان أحد بني عوف ، لهم من حلفه مثل الذي لهم من عبد الله بن أبي إلى رسولالله ، فخلعهم إليه ، وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم ، وقال : يا رسول الله !! أتولى اللهورسوله والمؤمنين ، وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم ، ففيه وفي عبد الله بن أبينزلت هذه القصة من المائدة " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياءبعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين فترىالذين في قلوبهم مرض " يريد عبد الله بن أبي " يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنادائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهمنادمين " إلى قوله " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاةويؤتون الزكاة وهم راكعون " ..
وذلك لتولي عبادة بن الصامت الله ورسوله والذين آمنوا، وتبرئه من بني قينقاع وحلفهم وولايتهم "ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإنحزب الله هم الغالبون " (المائدة 51 : 52).
وخلاصة موقف بني قينقاع أنهم بدأوابالاستهانة بالمسلمين ، واستفزازهم ، ثم اعتدوا على عرض امرأة مسلمة ، فكان عقابهمالجلاء ما داموا قد خانوا عهدهم الذي أخذوه على أنفسهم مع رسول الله صلى الله عليهوسلم حين دخل المدينة.
ثم تطورت الخيانةوالغدر اليهودي من الاستهزاء وهتكالأعراض ، إلى أمر أكثر خطورة ، وهو التهجم على قائد الأمة كلها حيثقرر يهود بني النضير قتل رسول اللهصلى الله عليه وسلم، وفضح الله تعالى أمرهم ، وأجلاهم عن المدينة ، ونزلت فيهم سورة الحشر.
وفي تطور أشد وأنكى من سابقه ، قام يهودبني قريظة بنقض عهدهم مع رسول اللهصلى الله عليه وسلم، وقرروا فتح ثغرة للمشركين الذينتحزبوا واجتمعوا على مشارف المدينة ، وقد حجزهم الخندق ، فلم يتمكنوا من دخولالمدينة والإغارة على المسلمين ..
وكان غرض يهود بني قريظة الذين عاهدوا رسول اللهصلى الله عليه وسلمعلى حماية المدينة ، أن يستأصلوا شأفة المسلمين ، وذلك بفتح طريقللمشركين من جانبهم ، يتوجه المشركون من خلاله إلى نساء المسلمين وأطفالهم وعجائزهم،
فيقتلونهم ، ثم ينقلبون بعدها إلى قتال المسلمين المرابطين عند الخندق ،
يضربونهم من ظهورهم ، وبهذا يتمكنون من التخلص من جميع المسلمين ، ومعهم
الرسولصلى الله عليه وسلمفي وقت واحد ..
وقد خاب ظنهم ، وبطل سعيهم ، وخذلهم الله تعالى بمسلمواحد هو نعيم بن مسعودالذي استطاع بمفرده أن يوقع بين يهود وبينالمشركين ، ويفسد عليهم خطتهم الماكرة " ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ."
وقد كان حكم الله العدل فيهم الذي نطق به سعد بن معاذ رضي الله عنه أن تقتلمقاتلتهم وتسبى ذراريرهم ونساؤهم ، وهذا الحكم أرفق بكثير من حكمهم الذي كانوا قدأبرموه ضد المسلمين ، وهو منتهى العدل ، مع كمال الرحمة . .
ولما لم تفلح كلمحاولات الخيانة والغدر التي قرر يهود أن يقترفوها بأيديهم استخدموا أسلوبا آخر ،ضلع فيه يهود خيبر ، وهو التحريض ضد المسلمين ، فقد حرض يهود خيبر المشركين ضدالمسلمين ، وحسنوا لهم ضرورة مواجهة الرسول صلى الله عليه وسلموالقضاء عليه وعلى دعوته ،وزاد من تجبرهم ، ادعاؤهم الكاذب بأن دين المشركين خير من دين الإسلام ، وكتمواالحق وهم يعلمون ، ومن عجيب أن كبير يهود خيبر (حيي بن أخطب) كان يتولى كبر هذهالفرية ، وهو يدرك يقينا أن دين الإسلام هو الدين الحق ، وأن نبي الإسلام هو النبيالحق ، ومع ذلك ادعى أن عبادة الأصنام أفضل ، وهذا يؤكد مقولته التي صدرنا بها هذاالحديث : "عداوته والله ما بقيت".
ولكن كلمة الله هي العليا ، فمهما ارتفعالباطل فلابد أن يقع ، ويبقى الحق خفاقة أعلامه ، مرتفعة رايته ، ويرجع الباطلمنكسة أعلامه ، مخذولا أدعياؤه ، ولذلك كان قدر الله تعالى أن يدخل المسلمون خيبرفاتحين لها ، ويرتفع النداء الإلهي االخالد : الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلاالله ، وترفع راية الإسلام في جزيرة العرب ، ويعلن النداء النبوي الكريم : " لايجتمع في جزيرة العرب دينان"
ونحن اليوم نرى بأم أعيننا تطور الخيانةاليهودية ، وتشكل صورها ، فقد بدأت بإغراء الفلسطينيين بالمال والذهب ؛ ليخرجوهم منأراضيهم ، فدافعوا دون عرضهم وأرضهم ، فانتقل يهود إلى سياسة الطرد والتشريد ، ثمإلى القتل والتعذيب ، ثم إلى محاول استئصال تام ، دون رحمة أو شفقة على الأبرياء ،وما مقتل محمد الدرة وأقرانه منا ببعيد ، وما قتل النساء والشيوخ الزمنى والشبابالذين في ريعان شبابهم بخاف عنا ، وكل هذا على مرأى ومسمع من عالم يظن أنه متحضر ،ويرعى حقوق الإنسان ، ويتشدق بالديمقراطية ، ويحسب لقتل هرة ألف حساب ، ولا يعنيه سحقالمسلمين في فلسطين في شيء ، فالدم الإسلامي في نظرهم أقل من دم هرة صدمتها سيارة ،وتزداد ضراوة الخيانة والغدر حين يعلن يهود بعد قتل الأبرياء أن هؤلاء المساكينكانوا يريدون الوقوف أمام حقوقهم ، ويرهبونهم ، ويضايقونهم.
فأين دعاة الرحمة، وحماة العدل ، وأدعياء السلام ، ورفقاء الطريق ، ورعاة حقوق الإنسان ، وحماةالفضيلة ، والسعاة إلى عالم لايعرف الشر فيه مكانا في ظل عولمة لا معنى لها ولاضمير !!!!!!!.
ومع هذا أقول : والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لايعلمون ،وسيأتي فجر جديد يندحر فيه الباطل وأهله ، ويعلو صوت الحق ، وتعود الدنيا صالحةتحكم بمنهاج النبوة ، ويسودها العدل والخير والسلام ، فمتى سيكون ذلك ؟؟ قل عسى أنيكون قريبا
دروس وعبر من موقف اليهود من المسلمين:
من أبرز الدروس منجلاء بني قينقاع :
ـ أن عداوة اليهود لأديان غيرهم وفي مقدمتها الإسلام مستمرة ، فإنأمكنت الفرصة وثبوا .
ـ وأن تطهير الداخل من الخونة ، وتأمين الظهر مقدم على حرب العدوالخارجي الواضح .
ـ وأن صدق الإيمان يحتم التبرئ من حليف خان الله ورسوله ، وتولي اللهورسوله والاعتزاز بذلك ، كعبادة بن الصامت الذي نزلت فيه " ومن يتولى الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون" .
أما العبر التي يمكن أخذها من غزوةبني
النضير : فأولها أنه على الباغي تدور الدوائر ، فمن نكث فإنما ينكث على
نفسه ، وعاقبة الغدر وخيمة ، وأن الصداقة بين الكفار ظاهرة ، وكل يبغي
مصالح فردية "تحسبهمجميعاً وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون ."
-لا يجوز تمكين العدو فيانسحابه من استصحاب سلاحه كسراً لشوكته.
أما الفوائد التي بمكن تحصيلها منغزوة بني قريظة فمنها :
ـ أن خيانة الوطن جزاؤها القتل سريعاً . وأن ترك الحزم ساعةالحرج ضياع كما حدث من تخاذل بني قريظة إزاء عرض زعيمهم كعب بن أسد . ـ أما أبرزالدروس من خيبر فهي : أن أثرة اليهود وحرصهم على مصالحهم الذاتية تجعلهم ينتهزونالفرص لنقض العهود دون حياء أو خجل.
ـ وأنه لا يجوز العبث بالوثائق والكتب التي تحصلفي يد المسلمين ، ولو كانت لأعدائهم .
ـ كما لا يجوز إمهال العدو بلا عقوبة عند التمكن؛ لئلا يستشرى خطره وتزول مهابة المسلمين في نظر من يهابونهم .
ـ وأن الاستهانة بالمعصيةمهما كانت تافهة تهلك صاحبها ، نظراً لعظمة المُعصى سبحانه وتعالى ، ونية السوء واحدة، بغض النظر عن مظاهرها .