عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إنما الأعمال بالنيّات ، وإنما لكل امريء
مانوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن
كانت هجرته لدنيا يصيبها ، أو امرأة ينكحها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه ) .
رواه البخاري و مسلم في صحيحهما .
الشرح
لقد
نال هذا الحديث النصيب الأوفر من اهتمام علماء الحديث ؛ وذلك لاشتماله على
قواعد عظيمةٍ من قواعد الدين ، حتى إن بعض العلماء جعل مدار الدين على
حديثين : هذا الحديث ، بالإضافة إلى حديث عائشة رضي الله عنها : ( من عمل
عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) ؛ ووجه ذلك : أن الحديث السابق ميزان
للأعمال الظاهرة ، وحديث الباب ميزان للأعمال الباطنة .
والنيّة في
اللغة : هي القصد والإرادة ، فيتبيّن من ذلك أن النيّة من أعمال القلوب ،
فلا يُشرع النطق بها ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يتلفظ بالنية
في العبادة ، أما قول الحاج : " لبيك اللهم حجاً " فليس نطقاً بالنية ،
لكنه إشعارٌ بالدخول في النسك ، بمعنى أن التلبية في الحج بمنـزلة التكبير
في الصلاة ، ومما يدل على ذلك أنه لو حج ولم يتلفّظ بذلك صح حجه عند جمهور
أهل العلم .
وللنية فائدتان : أولاً : تمييز العبادات عن بعضها ،
وذلك كتمييز الصدقة عن قضاء الدين ، وصيام النافلة عن صيام الفريضة ،
ثانياً : تمييز العبادات عن العادات ، فمثلاً : قد يغتسل الرجل ويقصد به
غسل الجنابة ، فيكون هذا الغسل عبادةً يُثاب عليها العبد ، أما إذا اغتسل
وأراد به التبرد من الحرّ ، فهنا يكون الغسل عادة ، فلا يُثاب عليه ، ولذلك
استنبط العلماء من هذا الحديث قاعدة مهمة وهي قولهم : " الأمور بمقاصدها "
، وهذه القاعدة تدخل في جميع أبواب الفقه .
وفي صدر هذا الحديث
ابتدأ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ( إنما الأعمال بالنيات ) ، أي :
أنه ما من عمل إلا وله نية ، فالإنسان المكلف لا يمكنه أن يعمل عملاً
باختياره ، ويكون هذا العمل من غير نيّة ، ومن خلال ما سبق يمكننا أن نرد
على أولئك الذين ابتلاهم الله بالوسواس فيكررون العمل عدة مرات ويوهمهم
الشيطان أنهم لم ينووا شيئا ، فنطمئنهم أنه لا يمكن أن يقع منهم عمل
باختيارهم من غير نيّة ، ما داموا مكلفين غير مجبرين على فعلهم .
ويستفاد
من قوله صلى الله عليه وسلم : ( وإنما لكل امريء ما نوى ) وجوب الإخلاص
لله تعالى في جميع الأعمال ؛ لأنه أخبر أنه لا يخلُصُ للعبد من عمله إلا ما
نوى ، فإن نوى في عمله اللهَ والدار الآخرة ، كتب الله له ثواب عمله ،
وأجزل له العطاء ، وإن أراد به السمعة والرياء ، فقد حبط عمله ، وكتب عليه
وزره ، كما يقول الله عزوجل في محكم كتابه : { فمن كان يرجو لقاء ربه
فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } ( الكهف : 110 ) .
وبذلك
يتبين أنه يجب على الإنسان العاقل أن يجعل همّه الآخرةَ في الأمور كلها ،
ويتعهّد قلبه ويحذر من الرياء أو الشرك الأصغر ، يقول النبي صلى الله عليه
وسلم مشيراً إلى ذلك : ( من كانت الدنيا همّه ، فرّق الله عليه أمره ، وجعل
فقره بين عينيه ، ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له ، ومن كانت الآخرة
نيّته ، جمع الله له أمره ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة )
رواه ابن ماجة .
ومن عظيم أمر النيّة أنه قد يبلغ العبد منازل
الأبرار ، ويكتب له ثواب أعمال عظيمة لم يعملها ، وذلك بالنيّة ، كما ثبت
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لما رجع من غزوة تبوك : ( إن بالمدينة
أقواما ما سرتم مسيراً ، ولا قطعتم وادياً ، إلا كانوا معكم ، قالوا يا
رسول الله : وهم بالمدينة ؟ قال : وهم بالمدينة ، حبسهم العذر ) رواه
البخاري .
و لما كان قبول الأعمال مرتبطاً بقضية الإخلاص ، ساق
النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً ليوضح الصورة أكثر ، فقال : ( فمن كانت
هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا
يصيبها ، أو امرأة ينكحها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه ) ، وأصل الهجرة :
الانتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام ، أو من دار المعصية إلى دار الصلاح
، وهذه الهجرة لا تنقطع أبداً ما بقيت التوبة ؛ فقد ورد عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال : ( لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة
حتى تطلع الشمس من مغربها ) رواه الإمام أحمد في مسنده و أبوداود و
النسائي في السنن ، وقد يستشكل البعض ما ورد في الحديث السابق ؛ حيث يظنّ
أن هناك تعارضاً بين هذا الحديث وقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا هجرة بعد
الفتح ) كما في " الصحيحين " ، والجواب عن ذلك : أن المراد بالهجرة في
الحديث الأخير معنىً مخصوص ؛ وهو : انقطاع الهجرة من مكة ، فقد أصبحت دار
الإسلام ، فلا هجرة منها .
على أن إطلاق الهجرة في الشرع يراد
به أحد أمور ثلاثة : هجر المكان ، وهجر العمل ، وهجر العامل ، أما هجر
المكان : فهو الانتقال من دار الكفر إلى دار الإيمان ، وأما هجر العمل :
فمعناه أن يهجر المسلم كل أنواع الشرك والمعاصي ، كما جاء في الحديث النبوي
: ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ، والمهاجر من هجر ما نهى الله
عنه ) متفق عليه ، والمقصود من هجر العامل : هجران أهل البدع والمعاصي ،
وذلك مشروط بأن تتحقق المصلحة من هجرهم ، فيتركوا ما كانوا عليه من الذنوب
والمعاصي ، أما إن كان الهجر لا ينفع ، ولم تتحقق المصلحة المرجوّة منه ،
فإنه يكون محرماً .
ومما يُلاحظ في الحديث أن النبي صلى الله
عليه وسلم قد خصّ المرأة بالذكر من بين متاع الدنيا في قوله : ( أو امرأة
ينكحها ) ، بالرغم من أنها داخلة في عموم الدنيا ؛ وذلك زيادة في التحذير
من فتنة النساء ؛ لأن الافتتان بهنّ أشد ، مِصداقاً للحديث النبوي : ( ما
تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء ) متفق عليه ، وفي قوله : (
فهجرته إلى ما هاجر إليه ) ، لم يذكر ما أراده من الدنيا أو المرأة ، وعبّر
عنه بالضمير في قوله : ( ما هاجر إليه ) ، وذلك تحقيراً لما أراده من أمر
الدنيا واستهانةً به واستصغاراً لشأنه ، حيث لم يذكره بلفظه .
ومما
يستفاد من هذا الحديث - علاوة على ماتقدم - : أن على الداعية الناجح أن
يضرب الأمثال لبيان وإيضاح الحق الذي يحمله للناس ؛ وذلك لأن النفس البشرية
جبلت على محبة سماع القصص والأمثال ، فالفكرة مع المثل تطرق السمع ، وتدخل
إلى القلب من غير استئذان ، وبالتالي تترك أثرها فيه ، لذلك كثر استعمالها
في الكتاب والسنة ، نسأل الله تعالى أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل ،
والحمد لله رب العالمين.