قطرات
قطرات دهر
قطرات دهر
في ليلة بان أخر طرف لها اخذ الدهر بالاستذكار وعاد بالصفحات إلى ما مر ودار عليها ، أمور دونتها وأحوال عايشتها وظروف تصارعت مع جذعها المتين الذي زادت الأيام والليالي والفصول حلقاته سمكا حتى باتت تمثل العمر وما فيه حلقتا بعد أخرى .
عاد بها الدهر مستذكرا أولها بذرة غرسها فلاح كبير كان يعرف ما يفعل لذا كان من أهم ما يمارسه في يومه هو السقي والرعاية والحرص حتى باتت نبتته الجميلة كأنها صبية زهو بين ألاف النساء لها ترافة الفراشة وروع الورود وزهو الربيع وقوام الجبل .
وفي احد الأيام افتقدت تلك الفتاة راعيها وكأنه على ما هو ليس بعادته ، استشعرت الخوف وراودتها بعض الأفكار الغريبة لا تعرف ماذا حدث وما سيحل بها ، وهكذا شيء فشيء وإذا بالشمس تتركها والظلمة تغمرها وفاضت الريح عليها أخذتا بها يمينا وشمالا كما تشاء لا مانع لها ولا رادع حتى انها بدأت تشعر بأن الأرض باتت تتملص من بين جذورها مما زاد ذلك رعبا تراشق أوراقها وتساقط بعضه وأمسى ما تشعره مهال وإذا بالأمر يزداد سوءاً حيث هالت عليها موجة من الأمطار المتزايدة شيءً فشيءً حتى أخذت منها مأخذاً عسير أدركت حينها إن عليها أن تعرف إن الدهر ليس لها وأنها بلغت أخر عهدها لكن الأمر الذي شدها هو ما تراه حولها عدد ليس بقليل ممن شابها الشكل وزادها الحجم فتساكنت بين نفسها وقالت إن مثل هذا اليوم لابد وانه مر عليهن فلمَ استسلم وهن يكبرن ، حينها قررت الصراع والصِدام والتحمل بكل ما تملك رغم ما فقده من أجزائها الجميلة والرقيقة وهكذا حتى تنازلت الريح وكشف بعض النور وبات المطر يتناقص شيءً فشيء وإذا بعصفور جميل يداعب أطراف ساقها المتمايل لما يحمل على أوراقه المتبقية من الماء فتعالت السهام الذهبية ولامست بدنها المتعب وإذ بها تأخذ من الأرض ما يرمم بدنها مندفعةً نحو يوم لا يملك إلا الجمال .
بانت عليها بعض معالم البلوغ وأزهرت مما تحمل من صفات توارثتها عن سلالتها القديمة .
يوم بان من أوله أنها منتصرة ومتطورة وهي تزهو بجذع له خصر رشيق وسواعد امتد عليها الجمال بردائه متزينة وكأنها عروس الكون الطويل تلوح لربيع الدهر وعلى إطرافها طيور السعد تغني هاتفة بما اعتادت عليه حناجرها كل على شاكلته بارقة نحو أمل جديد وعصر جميل جعل منها أميرة دهرها حتى أكرمت أهلها بما حملت وردت لهم كرمهم وفيضهم عليها ، منتقلة إلى يوم اخذ من أوراقها شيء مغيراً بشرتها الرقيقة يوم عرفها بالعطش وعناء الحر الشديد الذي اخذ مأخذه من الأرض ومنها لكنها وكما فعلت في ما مضى عليها من أحوال مستثمرة هذا لصالحها شاده به عودها وإذ بها تفاجأت بتساقط أوراقها ونحول عودها متناهية شيء فشيء إلا أنها لم تنسى إن ما هي عليه لا بد له أن يذهب وليومها أن ينقضي وتتلون بما يتطلبه منها الدهر محافظة على سلالتها العريقة وكأنها سفيرة دهر حملها أمانة إلى غيرها مما جعل الطموح سلاحها ولأمانة ردائها والهدف دافعها .
وبهذا عرفت الهدف الحقيقي الذي لأجله غرست بذرتها وشب وأثمر عودها .